خالد الکعبی-مدونة بروال الاهواز
انها مسألة الحریة و ثوابتها البنیویة المتجسدة في حریة التفکیر و الرأی و التعبیر ، هذه المسألة التی تکتسي في عالم الیوم أهمیةً خاصةً تتصدر بها منظومة القیم الانسانیة و الحقوق العالمیة بالمعنی الشمولي الذي یشمل الناس کافة . صحیح أن عملیة الوعي بها و تأصیلها مفاهیمیا کحق من حقوق الأنسان الطبیعیة ، و کأساسٍ لقیام الدیمقراطیة و المجتمع المدني ، و منبثق لمفهوم المواطنة الحدیث ، و کعامل مهم من عوامل تقدم المجتمعات و تطورها ، هو نتاجٌ للحضارة الغربیة المهیمنة اقتصادیاً و سیاسیاً و ثقافیاً ، الا أن ذلک لا یعني بأي حالٍ من الأحوال أنها حکرٌ علیها دون سواها ، أو أنها من نوع ذلک الوافد الغریب علی الثقافات الأخری التي تقع خارج دائرتها ، سواءٌ کانت نداً لها أو مرشحةً لأن تکون کذلک ،أوتابعة لها تبعیة المستلب المخترق ، أوأن التفکیر فیها و السعي إلیها و المطالبة بها ابتعادٌ عن متطلبات الواقع و همومه المعاشة…إطلاقاً . إنها قیمٌ إنسانیةٌ عامة ، و حقوقٌ مطلقة طالما ناضلت الشعوب المقهورة لاستردادها عبر مسیرتها الحضاریة، و طالما شهد التاریخ نزاعاتٍ و صراعاتٍ و حروب طویلةٍ حولها و من أجلها، ولکن بمضامین مختلفةٍ دائماً ما انحرفت عن حقیقة مطلبها و جوهر حاجتها ، ذلک أنها لم تکن قد تأسست بعد في وعي الضمیر الإنساني کحق أصیلٍ من حقوقه یکفلها له کیانه الإنساني و حسب ، إنسانٌ بصرف النظر عن لونه أو عرقه أو جنسه أو معتقده، أو أی شيءٍ آخر غیر ما یتحدد به الإنسان کإنسان.
إن التأصیل الذي تم لهذه المفاهیم بوصفها قیمٌ إنسانیة و حقوقٌ مطلقة علی ید مفکري عصر النهضة الأوروبیة في القرنین السابع و الثامن عشر للمیلاد باعتماد الألیة النهضویة التي تقوم فیها قوی التجدید بالعودة إلی الأصول ، و الأصول البعیدة في التراث لا من أجل التشبث بها و التثبت عندها ، و لا من أجل محاولة إعادة انتاجها أو محاکاتها ، ولکن من أجل احتواء الحاضر و تجاوزة إلي المستقبل الذي تطمح إلي بنائه . فتصارع لتکشف حقیقة الواقع ، و اثبات زیفه و بطلانه هو و الماضي القریب المرتبط به المنتج له، الذي تتمسک به الفئات الإجتماعیة المستفیدة منه ، و هي القوی التقلیدیة التي تقاوم التجدید مستندةً إلی الماضي القریب من أجل اضفاء الشرعیة علی الحاضر الذي تتوقف علیه مصالحها و ترتکز علیه مواقع نفوذها ، و عملیة العودة إلی الأصول هذه ، هي عملیة تهدف أساساً إلی إعادة تأسیس الشرعیة التي تقوم علیها مرجعیة المجتمع و منظومة القیمیة ، فالصراع إذا صراعٌ علی الشرعیة و المرجعیة . و لکي تکون المرجعیة الجدیدة المراد تأسیسها مرجعیة تفسر نفسها بنفسها تتعالي علی التاریخ ، قال أولئک المفکرون بنظریة ما أسموها بـ«حالة الطبیعیة»التي افترضوا من خلالها وجود «حالة طبیعیة» للإنسان سابقةً للتنظیم الإجتماعي و السلطة السیاسیة یوجد علیها الأفراد ، و هي حالة الحریة الکاملة في تنظیم أفعالهم و التصرف بممتلکاتهم بما یعتقدون أنه ملائم لهم ، دون أن یستأذنوا إنساناً أو یعتمدوا علی إرادته.
و لما کان من المحتمل جداً أن تقوم نزاعاتٌ بین هولاء الأفراد عند ممارسة کلٍ منهم حقه الطبیعي في الحریة الکاملة ، فلابد إذاً من التوصل إلی صیغةٍ یضمن من خلالها الأفراد التمتع بحقوقهم الطبیعیة في الوقت نفسه الذي تقوم به علی تنظیم العلاقة فیما بینهم بصورةٍ مرضیةٍ لکل الأطراف ضمن اطار ملزمٍ للجمیع. و من هنا ظهرت فرضیة «العقد الإجتماعي » المؤسسة علی فرضیة «حالة الطبیعة » و المفسرة لکیفیة الإنتقال منها إلی«حالة المدنیة» مع ممارسة الإنسان لحقوقه الطبیعیة . تنطلق هذه الفرضیة من مسلمةٍ أساسیةٍ تقوم علیها ، هي أن الإنسان اجتماعيٌ بطبعة ، فهولا یستطیع العیش بمفرده، و بما أنه کذلک فلابد من إجتماعه مع غیره من بنی جنسة ، و لما کان هذا الإجتماع ینتج عنه اختلافٌ في الإرادة و تضاربٌ في المصالح نتیجة ممارسة کل فردٍ من أفراده الحقوق الطبیعیة مما یؤدي إلی نشوب النزاعات و الصرعات ،الأمر الذي لا یستقیم معه هذا الإجتماع ، فلابد إذاً من تنازل الأفراد عن جزءٍ من حقوقهم تلک عبر «عقدٍ» فیما بینهم لإرادةٍ تعلوا علی إرادتهم . هذه الارادة تمثلها « الدولة» کشخص اعتباري ینوب عنهم في تنظیم ممارستهم لحقوقهم ، و بذلک تتحول تلک الحقوق الطبیعیة إلی حقوقٍ مدنیة تبقی الحریة فیها جوهر هذه الحقوق ، و العقد الذي تم بناءً علی « توافق » الأفراد و «إختیارهم» هو جوهر هذه « الدولة » المعبرة عن إرادتهم و مصالحهم کافة، بالتساوي من غیر أي شکلٍ من أشکال التمییز، وهذا هو المغزی الرئیسي الذي أرید من خلاله التأصیل لوضعیة «الدولة» علی أساس التعاقد و الإختیار و التراضي و المساواة ، ضداً علی الأستبداد و القهر و الظلم و التمییز. واضحٌ أن کل ذلک کان موجهاً بالدرجة الأولی للواقع الأجتماعي و السیاسي الذي کان یسود اوروبا في ذلک العصر ، و المتمثل بالإستبداد الذي مارستة کلٌ من الکنیسة بوصفها تمثل السلطة الروحیة و تملک أرواح الناس من جهةٍ والدولة بوصفها تمثل السلطة الزمنیة التی تملک ابدان الناس من جهة أخری ، و الصراع علی السلطة الذي طبع علاقة کل طرفٍ بالأخرة و الهدف هو نزع الشرعیة عن کلیهما و إعادة تأسیسها بالشکل الذي یساعد علی تحقیق التجاوز التاریخي لهما معاً، و هذا هو ماتم بالفعل.
لذلک فأن هذا التأصیل الفکري و النظري الذي أسس علی مرجعیةٍ کلیةٍ مطلقة، مرجعیةٌ متعالیةٌ علی الزمان والمکان سابقةٌ علی کل مرجعیة ٍ اخری،ثقافیةٌ کانت او حضاریةٌ اوحتی دینیة،تکتسی قوتها ومعقولیتها بالتعالی علی کل ماسواها ، و هذا هو ما تعنیه الإحالة إلی «حالة الطبیعة» قد جعل هذه الحقوق تنتقل نقلةً تاریخیة من الوضعیة التي کانت خارجةً فیها عن نطاق القضایا المفکر فیها بالصورة التي تجعل منها حقوقٌ یُعبر عنها بمضامین تتطابق مع حقیقتها الکلیة المطلقة، إلی الوضعیة التي ترسخت من خلالها بالوعي الإنساني کحقوقٍ کلیةٍ أصیلة للإنسان بما هو کذلک متجاوزةً أیة دعوی تتعارض معها مهما کانت الظروف و الأسباب و المسمیات، لتصبح بالنظر إلیها من هذه الزاویة من مسلمات الفکر الإنساني الحدیث ، و من ثوابت الحقوق الإنسانیة العالمیة.
من ناحیةٍ ثانیة، فإننا إذا ما اخترنا تحویل وجهة النظر لنتحرک باتجاة زاویةٍ أخری ، ننظر من خلالها للموضوع الذي تتحرک فیهس، فإن المشهد سوف یکون مختلفاً عن سابقه ، ولکنه لیس اختلافٌ محکومٌ بعلاقة التنافر و التضاد، و إنما هو اختلافٌ من ذلک النوع یستقر فی خانة التضامن و التکامل ، ما یعني أن محصلة الصورة النهائیة واحدة، و النتیجة المؤدیة إلیها هي ذاتها.
فبالإضافة إلی أن هذه الحقوق لم تعد قابلةً للمصادرة أو النقاش أو المساومة، إذ أنها لم تعد منحاً أو عطایا تخضع لإرادة أشخاصٍ أو جماعات تمنعها أو تحد منها أو تؤطرها ضمن مساحات تضیق وتتسع وفقاً لمصالحها تتصرف بها کما لو کانت ملیکةً خاصةً، بعد أن انتقل الوعي بها إلی مستوی الحق الطبیعي الذي یشکل المبدأ و المعاد. أقول ، بالإضافة الی کل ذلک فإنها «أي هذة الحقوق» قد أصبحت بالنسبة لدول العالم الثالث و مجتمعاتة ضرورةً تاریخیة لا یمکن من دونها أن تحفظ کیانها وهویتها في ظل الظروف و المعطیات التي تفرضها ترکیبة المرحلة التاریخیة الراهنة حیث تواجة فیها اشکالیات اقتصادیة و اجتماعیة و سیاسیة و ثقافیة تشکل لها تحدیات علی صعید الوجود و الهویة علی المستویین الداخلي و الخارجي ، هذان المستویان یدخلان بعلاقةٍ جدلیةٍ تربط فیما بینهما بحیث یکون کل منهما مسببٌ للآخر وباحثٌ له.
علی صعید المستوی الخارجي یقوم العالم الیوم بالوضعیة الدولیة الراهنة علی نظامٍ من العلاقات بین أطرافة و مکوناتة یخضع لتوجةٍ وحیدٍ في حرکته قوامه الهیمنة و الإستتباع من طرف ، و التبعیة و الخضوع من الطرف الآخر ، نظام فرضتة عوامل متداخلةٍ عدیدة تفسر بعضها البعض . بدایته کانت في انهیار ما کان یعرف بـ «الإتحاد السوفییني » و سقوط المعسکر الشیوعي المنطوي خلفه و تحت قیادته، انهیارٌ نتج عنه اختفاء ما کان یشکل القطب الثاني في ضبط میزان القوي العالمي ایدیولوجیاً و سیاسیاً و اقتصادیاً و عسکریاً ، مما أدی إلی هیمنة الرأسمالیة العالمیة و انفراد الولایات المتحدة کقوةٍ وحیدةٍعظمی تبسط سیطرتها و نفوذها علی الساحة الدولیة ، و تعلن عن دخول العالم في حقبةٍ جدیدةٍ مغایرةً کلیاً لسابقتها أفرزت ما یعرف بـ«نظام العالمي الجدید» ، نظامٌ مؤسسٌ علی قواعد جدیدةٍ من العلاقات ، و قائمٌ علی هیمنة قطبٍ واحد ، رأسمالي النشأة و التکوین ، استعماري الطبیعیة و النزوع ، امبریالي الطموح و الأهداف ، یفرض ایدیولوجیا النظام الرأسمالي علی العالم. الأمر الذي یعني سیطرة الدول الغربیة الرأسمالیة بزعامة الولایات المتحدة علی عجلة الإقتصاد العالمي و آلیات حرکته، و التحکم بمفاتیحه و إرادته عبر مؤسساتٍ و منظماتٍ اُعدت خصیصاً لهذا الغرض مثل البنک الدولي و صندوق النقد الدولي و منظمة التجارة العالمیة . و بواسطة تلک الأدوات تتم لها السیطرة علی اقتصادیات و سیاسات و ثروات معظم دول العالم الأخری التي ما زالت اقتصادیاتها تقع خارج منظومة الإقتصاد الرأسمالي لأنها ما زالت مجتمعیاً لم تحقق النقلة البنیویة في هذا الإتجاة و منه إلی الإنخراط الفاعل فیه ، الکفیل بتمکینها من الحفاظ علی استقلالها سیاسیاً و اقتصادیاً . لذلک فإن العلاقات الناتجة عن وضعیة هذا النظام العالمي الجدید، علاقات تسیر في اتجاةٍ واحد من قبیل تلک العلاقة التي تربط التابع بالمتبوع إن لم نشأ القول بتلک التي تربط السید بالعبد. هذة العلاقة کرسها تفوُق الغرب الحضاری وتقدمه الشمولی فی کافة المیادین العلمیة والتنظیمیة ،العسکریة منها والمدنیة، تفوقٌ عمقته الطفرة الکبیرة التي حققها في عالم الإتصالات البصریة و السمعیة ، إضافة إلی الثورة المعلوماتیة الجبارة التي لا یضاهیها من حیث الأهمیة التاریخیة سوی الثورة الصناعیة الأولي في القرن السابع عشر، لتزید الهوة الحضاریة اتساعاً بین الغرب المتقدم و العالم الثالث المتخلف ، و لتفتح الباب أمام الدخول في عصر عالم الفضاءات المفتوحة ، العالم الذي سقطت أمامه کل الحدود الجغرافیة و السیاسیة المرسومة بین الدول ، غدت معه مسألة سیادة الدول مسألةً نسبیة تتحکم بها المصالح و موازین القوی . لیدشن العالم مرحلةً جدیدة في تاریخة لم یشهد لها تاریخ الإنسانیة مثیل علی الإطلاق ، مرحلة عصر «العمولة» و هو الحلقة الأخیرة في سلسلة الهیمنة الإمبریالیة الغربیة التي تطمح إلی تتویج السیطرة علی العالم اقتصادیاً و سیاسیاً و عسکریاً بالسیطرة علیه ثقافیاً و حضاریاً عبر تعمیم ثقافتها و حضارتها، و منظومتها القیمیة و أسالیبها المعاشیة و نمط معقولیتها و رؤریتها للکون و الإنسان علی العالم أجمع، العالم الذي تحول إلی قریةٍ صغیرة تتحکم بها و علیها القوی الاستعماریة الغربیة الهادفة إلی صهر الثقافات الأخری في بوتقتها، و تحقیق هیمنة ثقافیة تطال عمق الهویة و صمیم الوجود من أجل احکام قبضتها علی خیارات الدول و مصائرها ، و استمرار سطوتها علی الثورات الشعوب و مقدراتها ، إشباعاً لمادیتها ، و إرضاء لعنصریتها و نرجسیتها، إنه الإستعمار الجدید ، لکنه استعمارٌ عن بعد ،أقل تکلفةً و أکثر منفعةً للمُستَعمِر و أشد ضراوةً و أکبر تدمیراً علی المُستَعمَر.
هذة التحدیات الخارجیة المصیریة التي تواجه دول العالم الثالث و تعصف بکیاناتها ، ما کانت لتکون بهذه الدرجة من الحدة و الخطورة لولا الإستعداد الذاتي الذي لدیها لذلک عبر عوامل داخلیة ساعدت علی أن تصل بالتحدیات الخارجیة إلی المستوی الذي وصلت إلیه . و بالمثل کذلک ، فإن العوامل الخارجیة و الظروف الدولیة المتمثلة بالقوی الإستعماریة ذات الطموحات الإمبریالیة قد عملت أیضاً علی تعمیق هذا الإستعداد الذاتي لدی هذه الدول ، و دفع أوضاعها الداخلیة نحو مزیدٍ من الفوضی و التأزیم و الفقر و التخلف و بکلمة واحدة ، دفعها نحو الإنهیار . ذلک أن الإنسان و النسیج الإجتماعي المنسجم المترابط هما البنیة الأساسیة في تماسک الجبهة الداخلیة التي تشکل صمام الأمان لأي مجتمع و دولة ، و عندنا ما یصل التصدع إلی هذه البنیة ، فإن عملیة الإنهیار واقعةٌ لا محالة، و لا تحتاج إلا لبعض الوقت لکي یحصد نتائجها من عمل علیها وسعي إلیها ، و هذا ما یحیلنا إلی المستوی الداخلي .
علی الصعید الداخلي تعاني دول العالم الثالث من تخلف مطبق في مجمل المجالات الحیویة ، الإقتصادیة و السیاسیة، الإجتماعیة و الثقافیة، العلمیة و التعلیمیة ، التنظیمیة و الإداریة … الخ، إنه تخلفٌ حضاريٌ شامل لکافة مرافقها المفصلیة و بناها المجتمعیة أسس الإستعمار التقلیدي في قرنین الماضیین جزءً کبیراً منه ، و استمر في تعمیقه الإستعمار الحدیث منذ منتصف القرن الماضي في صورتة الجدیدة ، الأکثر خطورة و الأشد تدمیراً، بآلیة مشترکة و أسالیب مختلفة جوهرها استغلال هذه الشعوب و استدمارها، و تحطیم کل قدراتها الذاتیة التي تمکنها من تحقیق نهضةٍ تستطیع بها تحقیق استقلالها التاریخي. و مما زاد في استفحال هذا التخلف المطبق و اشتداد و طأته ، عقودٌ طولیةٌ من الإستبداد تعاقبت علی ممارسته الأنظمة المختلفة التي کان القاسم المشترک فیما بینها تداول الإستبداد، و الإنقلاب علی المباديء الأساسیة التي حرکتها ضد الأنظمة السابقة علیها ،الإستعماریة و الوطنیة، مکرسةً النهج ذاتة الذي ثارت علیه أساساً.
إن کبت الحریات و تجمید العقول و فرض الرقابة علیها، و ترسیخ أخلاق الطاعة و قیم الرضوخ و الإستسلام لدی هذه الشعوب من خلال قهرها و اضطهادها، و استغلال تراثها و الکذب علی تاریخها و ممارسة مختلف عملیات التخدیر و التمویه الإیدیولوجیة ضدها ، من اهم الأسباب و العوامل التي أدت إلی عدة نتائج کارثیة زادت من تعقیدات الأوضاع الداخلیة لدی هذه الدول و انعکاساتها السلبیة الخطیرة علی حاضرها و مستقبلها کان و لازال من أهمها.
*اجهاض مشروع الدولة الحدیثة و فشل قیامها . الدولة الدیمقراطیة الحقة القائمة علی مبدأ فصل السلطات الثلاث التشریعیة و التنفیذیة و القضائیة ، الخاضعة لسیادة القانون، المبنیة هیکلیاً علی مأسسة تنظیماتها الإداریة و رقابة و شراکة مؤسسات المجتمع المدني ، یستمد حکامها شرعیتهم السیاسیة و القانونیة من خلال انتخاباتٍ حرةٍ نزیهة تمثل إرادة الشعب و تعکس خیاراته و تضمن تداول السلطة و تحول دون احتکارها. الدولة التي یکون أفرادها مواطنون لارعیة لهم نفس الحقوق و علیهم نفس الواجبات ، الدولة القادرة علی احتواء کل تناقضات مکوناتها الداخلیة ، و انجاز نهضةٍ فعلیة و تحقیق تنمیةٍ مستدامة تکفل لها الحفاظ علی سیادتها و استقلالها و تعزیز هویتها الوطنیة و الثقافیة.
*تَکَوُنُ شعوبٍ مأزومةٍ مهزومة، شعوبٌ تفتقد إلی العزیمة و الإرادة و التحدي ، کما تفتقد إلی الروح العلمیة و النظرة العقلانیة و الفکر النقدي ، تسیطر علیها الروح الإنهزامیة و العقائد المیتولوجیة و التصورات الخرافیة ، تسکنها ثوابت أسطوریة و تدفعها رؤی حتمیة شعوب تولدت عندها قابلیة الإستتباع و الإستلاب غیر قادرةٍ علی تحدي الإستبداد الداخلي ، غیر قادرةٍ علی مواجهة أي تحدٍ خارجي، غیر قادرة علی خوض أي صراع ، شعوبٌ غیر قادرةٍ علی الدفاع عن وجودها التاریخي و هویتها الحضاریة.
* غیاب مفهوم المواطنة عن وعي هذة الشعوب و بالتالي غیاب شعور الولاء الوطني و حس الانتماء القومي، و التصنم في مواقع تجاوزتها حرکة التاریخ المتطورة و دینامیة الواقع المتغیرة ، و التشبث في انتماءاتٍ ضیقةٍ هشة طائفیة و اثنیة و قبلیة، باتت تشکل الوعاء عنواناً لهویتها و جوهراً لعلاقاتها تغلبها علی الهویة الوطنیة التي من المفترض أنها تشکل الوعاء الجامع لها. فغدي مفهوم الهویة مفهوماً مطاطاً یخضع لمصالح و رغبات فئویة جهویة، و غدت تبعاً لذلک الهویتة الواحدة مجموعة هویات و الإنتماء الواحد عدة انتماءات لاسیما في المجتمعات التي یقوم نسیجها علی تعددٍ من هذا النوع مما جعل هذه المجتمعات تعاني شروخاً عمیقة و انقسامات عدیدة تهدد وحدة هیکلها الکلي و تماسک نسیجها العام ، لتجد نفسها مائلةً أمام خطر الحرب الأهلیة من جهة او التجزئة و التفتت إلی وحدات صغیرة من جهةٍ اُخری ، و هذا ما یتجسد فعلاً في واقع دولٍ عدیدة تتخبط بالتماس حلولٍ بعیدةٍ کل البعد عن جوهر الاشکالیة المتمثلة بالأستبداد و مصادرة الحریات ، و کل ذلک یجري في عالمٍ یقوم الیوم علي الکیانات القویة و التکتلات الکبیرة و لعبة التوازنات الإقلیمیة و الدولیة، لیس فيه موضع للصغار و الأقزام.
*ظاهرة التطرف التی تجتاح معظم مجتمعات و دول العالم الثالث. التطرف الذي هو أساساً ظاهرةً إنسانیةً، بمعنی أنها جزءٌ من تاریخ الفکر الإنساني و السلوک البشري ، لکنه الجزء الممثل للجانب الشاذ فیه و لیس القاعدة ، إذ لم تخلُ منه أیة مرحلة من مراحل التاریخ في مختلف المجتمعات الإنسانیة إلا أنها کظاهرةٍ طبیعیة کانت دوماً تحتل مکانها علی هامش المجتمع و التاریخ غیر فاعلةٍ فیه، غیر مؤثرةٍ علیه، و هذا هو المکان الطبیعي لها في الظروف و الأحوال الطبیعیة، ولکن عندما یحدث و تنتقل هذه الظاهرة من الهامش باتجاة المرکز لتنجح في اکتساح الساحة الإجتماعیة ، فإن ذلک یعني أن ظروفاً معینة أدت إلی هذه النقلة و ساعدت في هذا الإکتساح، ظروفٌ ذات علاقة مباشرةٍ بالوضع الإقتصادي و الإجتماعي و السیاسي و الثقافي دفعت باتجاة تولید حرکة احتجاجٍ ضد الواقع المنتج لها، و ضد القوي المستفیدة منها و المتسببة بها ، کغیاب الدیمقراطیة و کبت الحریات و التهمیش الثقافي و التمییز الإثنی و الطائفي و الظلم الإجتماعي ، توجهها باتجاة التعبیر اللاعقلاني عنها المتمثل بظاهرة التطرف التي تبدأ بالفکر و الخطاب عادةٍ لتنتهي بالسلوک و العنف ، و من الملاحظ في هذا الصدد أن التطرف غالباً ما تکون قاعدتة في مناطق الفقر و التهمیش في المجتمع . و علی هذا الأساس یجب النظر إلی هذه الظاهرة کظاهرةٍ لها أسبابها الموضوعیة التي استدعتها من مکانها الطبیعي في الهامش لتحتل أحداث و مجریات المجتمع و تطغي علی معقولیة تفاعلاتة ، و بالتالي البحث في أسبابها و مسبباتها و العوامل الدافعة بها و العوامل المغذیة لاستمرارها ، للتمکن من احتوائها و تحویلها باتجاة التغییر السلمي عن الحاجات و المطالب الحقیقیة الکامنة خلفها . أما أن یکون التعامل معها علی قاعدة «وداوها بالتي کانت هي الداء» و یواجة التطرف بتطرفٍ آخر مضاد بالإمعان في خنق الحریات و ممارسة المزید من القهر و الظلم و الإستبداد ، فذلک لا یمکن أن یزید التطرف إلا تطرفاً ، و لا العنف ألا استفحالاً ، و قد یؤدي إلی تحوله لداءٍ لا ینفع معه إلا البتر الذي دائماً ما تکون و أثمانه باهظة.
إن هذه الأوضاع المأزومة التي تعاني منها دولٍ العالم الثالث و شعوبه تشکل مرحلةً حرجة في تاریخها و مصیرها، یتطلب التعامل معها تعاملاً دقیقاً من منطلق «أکون أولاً أکون » و هنا تتجلی الضرورة التاریخیة التي یجب النظر من خلالها إلی مسألة الحریات في العالم الثالث و الإستحقاقات الناتجة عنها من دیمقراطیة و مساواة و عدالة اجتماعیة و شراکة في المسؤولیة . إن الإنفتاح اللامحدود علیها و الإستجابة الکاملة لمتطلباتها کقیمٍ و حقوق و واجبات ، هو وحدة الکفیل بالخروج من وضع الأزمة هذا الذي بات یشکل شللاً حضاریاً تاماً یحول دون إمکانیة تحقیق النهصة و تجاوز الحاضر المتخلف و مواجهة التحدیات الخارجیة باقتدار، و لا یمکن لهذه المواجهة أن تکون فاعلة ناجحة ما لم تقف خلفها جبهةٌ داخلیة متماسکة قویة عمادها مواطنون أحرار انتماءاتهم وطنیة لا طائفیة أو فئویة أو عصبویة ، و هو وحده القادرعلی اعداد الإنسان الواثق من نفسه، المعتزبثقافته وهویته المؤهل للدفاع عنها ، فالحریة تعني انسان حرمؤمن بنفسه متمسک بکرامته ، و حریة التفکیر تعني الفاعلیة العقلیة اللا محدودة و النظرة النقدیة الفاحصة، و حریة الرأي و التعبیر تعني اثراء هذة الفاعلیة و اغنائها و بالتالي اغناء الثقافة و إخصابها ، و تعني أیضاً الرقابة و استشعار المحاسبة ، و الدیمقراطیة تعني قبول التعددیة و الإعتراف بالآخر و بحقة في الإختلاف و تعني أیضاً الشراکة في المسؤولیة و عدم الإستبداد في الحکم أو الإستئثار في القرار ، و المساواة تعني تکافؤ الفرص و تحقیق العدالة الإجتماعیة و سیادة القانون تعني أن الجمیع تحته و أن لا أحد فوق مستوی المحاسبة مهما علا شأنه و ارتفعت منزلته. هذه هي النظرة التي یجب أن ینظر بها إلی هذه المسألة ، إنها الضرورة التاریخیة التي تقتضیها التحدیات التي بلغت من الخطورة حد التهدید للوجود و للهویة…و هل من شیءٍ أدعی وأهم من الحفاظ علی الوجود و الهویة؟؟!
أن أیة آلیة دفاعیة ، و أیة عملیة نهضویة لن یکون لها أثرٌ یذکر ، و محکومة لا محالة بالفشل ما لم تنطق الإنطلاقة السلیمة ، و الإنطلاقة السلیمة تعني التوجه بدایة إلی الإنسان ، اللبنة الأساس في کل نباء . فعملیات التحدیث التي شهدها العالم الثالث لم تحقق الغرض الذي کان یتوقع منها ، لأنها توجهت إلی تهیئة البنی التحتیة العمرانیة و اعتماد المناهج الحدیثة في الإدارة والتنظیم ، و التقانة في التطبیق و التنفیذ ، و تجاهلت الإنسان الذي هو أساس ذلک کله . فعلی الرغم من أهمیة هذا التحدیث إلا أن افتقاره للعامل الأساسي الذي یضمن له الدوام و الإستمرار المتمثل في المواطن الحر المهیأ تهییئاً ثقافیاً و فکریاً و عملیاً لکي یکون قادراً علی الإنتاج والعطاء، جعله أشبه ما یکون بالطلاء الذي یُراد منه إخفاء تشقق الجدران و تصدعها ، في الوقت نفسه الذي تزداد فیه تشققاً و تصدعاً ، خفیةً…و من القواعد.
وبعد، یقول «سبینوزا» وهو احد فلاسفة عصر النهضة الاروبیة:
«إن حریة الفکر لیست خطراً علی الإیمان و لاعلی سلامة الدولة ، بل إن القضاء علی حریة الفکر فیه تهدیدٌ للإیمان و سلامة الدولة»
مقولةٌ عمیقة المعنی بعیدة الرؤیة ، قیلت في مرحلةٍ تجاوزها الآخرون منذ ما یزید عن ثلاثة قرون ، و ما زال البعض الآخریئن تحت وطأتها و وطأة من تجاوزها . و هذا ما یجب أن تعیه و تستوعبه الفئات المکرسة لواقع الإستبداد و التخلف في بلدان العالم الثالث التي ستظل ثالثةً إلی الأبد ما لم تقلع أشواکها بأیدیها.
تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.