لا نبالغ في الأمر إذا قلنا بان المحاولات التي يبذلها شريحة المثقفين في زمن الصمت الرهيب المهيمن على الشرق الأوسط, تعد بمثابة قطرة ماء في صحراء قاحلة, تريد أن تسقي الأرض, لعلها تنبت وردة تفوح رائحتها, لتعم مكان ما, رائحة طيبة. لا نتخذ جانب التطرف إذا قلنا بأنها تبقى حبرا على الورق, ولا تصل إلى المطلوب, ذلك لغياب الآليات التي لا بد من توفيرها, لإيصال المعلومة ونشرها في صفوف الشعب, هذه من جهة وفي الجانب الآخر, تبقى قضية إيمان الأشخاص بما يتكلمون عنه, مسالة غاية في الأهمية, حيث نراهم يتخذون طريقا في الحياة, يبعد كل البعد عن ما يتفوهون به, كأنهم يريدون النطق بما وجدوه في صفحات كتب المثقفين العرب, فوجدوا ضالتهم وانطقوا بما يريدون في ساحة حرة تسمح للشخص, بان يعبر عن خلجات صدره, بلا رقيب ولا حسيب, ولا اقصد الجانب الأمني, بل اقصد غياب فكرة نقد الذات ونقد الآخرين, فنراهم يتحدثون بلا هوادة ولسان حالهم يقول دعوني أتكلم ليس المهم ما أقوله, بل المهم التحدث كي أعلن عن نفسي, فتارة ترى الإحساس يغلب على كلماته وأخرى تراه يتشبث بالعقلانية وحينا يصبح ثوريا يريد تغيير العالم من خلال كلمات لا يسمعها إلا هو. هذا إذا افترضنا انه ينطلق من خطاب رسمه لنفسه ,مستوعبا كلماته وعباراته.[1]
لا أريد الخوض في ثنايا ما قيل عن تعريف المثقفين, لان الحديث يطول بنا , غير إن سياق الكلام يفرض علينا أن نختار واحدة من تلك التعاريف, كي نحدد الإطار الذي ننطلق منه. قيل في تعريفهم إنهم علمانيون أو من يعتمدون على العلم والعقلانية ويواجهون القضايا بأسلحة العلم أو من لهم أفكار نيرة. أما قصة المثقفين بدأت عندنا, عندما اختلت الموازين التي كانت سائدة في المجتمع, تزعزع أركان موازين القوى, الفكرية وغير الفكرية, بدخول قوى أجنبية علينا, لنضع النقاط على الحروف ونوضح مبتغانا, فأقول قبل دخول الأجنبي أراضينا كان لدينا أخلاق خاص بنا, مكون من عناصر خاصة وله إطار خاص يتطابق مع تفسيرنا للدين والسلطة والعائلة وكانت تلك القوى تؤدي عملها كي لا تختل تركيبة القوى وموازينها, فلم يسأل احد عن القبيلة ولا عن الأخلاق ولا عن المرأة, بمعنى انه لا يشك احد في صحة الإطار التي تعيش فيه, إنها كانت تشكل كل شامل, يقوم بواجبه على أحسن وأكمل وجه, بعبارة اجل لم يأت احد ليشكك بمدى فاعلية مكونات مجتمعنا, كلامي هذا لا يرمي تأثير الأنا في سلة المهملات, ذلك الأنا الذي شاهد بأم أعينه مستوى الآخر في كافة جوانب الحياة وهو يعيش في ظروف اقل ما يقال عنها إنها جيدة, تختلف كل الاختلاف عن ما يعيشه, ينعم بالراحة ويتمتع بالإمكانيات التي تتيح له الحياة في ظروف جيدة على وجه المعمورة, فما أريد أن اخرج به من هذا المقطع, هو إن هناك عاملان شكلا السمة البارزة لتعريف المثقف, إذا كان الأول هو اختلال موازين القوي والبحث عن إعادة التوازن طوعا أم كرها, فالثاني يتبلور في عميلة مواكبة العالم والاقتلاع عن التأخر والتخلف المعاش.
من هذا المنطلق يأتي بحث المثقف عن المخرج أو المخارج التي يأخذ بيده وبيد شعبه إلى بر الأمان والسعادة, موجها وله ألف مبرر ومبرر. ومن هذا المنطلق يقوم المثقف بالبحث عن الآليات التي تساعده في ما يحلم به أو على الأقل, تسهل عملية إيصال الفكرة إلى الآخرين ومن هنا تبرز إحدى أسباب الاختلاف الناتج عن تعدد الأفكار والتجارب, الذي خرج به الفرد من الحياة الفردية وما شابه ذلك, والحق يقال إن الشعب الذي لا يختلف هو شعب ميت, لكن الاختلاف لا بد أن يكون حضاريا, معبرا عن حب الآخر ومحاولة الرقي به وليس التجريح والهدم.
أتيحت لنا في فترة ما يسمى بالإصلاحات, فرصة تاريخية في تاريخ إيران الحديث, لكي نفكر بالأمور جديا ونبدي آراءنا حول تلك الأمور, من خلال ما أتيحت لنا من آليات كالصحف والحزب ومنظمات غير الحكومية. انتهت تلك الفترة بحلوها ومرها وعدنا حيث كنا, لكن هيهات أن تسود تلك الأيام من الصمت الرهيب والسبب واضح جلي, يتجلى في انتشار الشبكة العنكبوتية والمواقع الاجتماعية التي جعلت بالفعل العالم كقرية. حيث أصبح بالإمكان طرح النقاشات والموضوعات, على مرآى من الجميع, تشاركهم الأفكار, تتحاور معهم, تأخذ منهم وتثري نفسك, صحيح إن هذه الآلية ستحدد من نطاق العمل, لكن الحق يقال, إن الجل الأعظم ممن كانوا يقرؤون الصحف هم الذين يكتبون اليوم ويشاركون في مثل هذه الحوارات, لان إحدى أزمات الحركة الثقافية عندنا تتجلى في سيرها ببطء شديد. لكن الحركة ببطء وبإيمان نابع من القلب أفضل من ألف حركة وحركة, يسيرها أناس يضرون بتاريخ شعب قبل أن يضروا بأنفسهم هذا إذا لم نقل إنها مصدر رزق لهم… .
فكرة طرح الأفكار عبر الشبكة العنكبوتية والمواقع الاجتماعية للتواصل, فكرة أكثر من جيدة تعبر عن الإحساس بثقل المسؤولية ومحاولة لوضع الشمع في الطريق بدل اللعنات المتبادلة. والعمل بمقولة أن تضيء شمعة صغيرة خير لك من أن تنفق عمرك تلعن الظلام, وهي التي جعلتني اكتب هذه السطور علني أشارك في تلك الحلقات بقدر استطاعتي, لكن أريد أن انظر إلى القضية من زاوية أخرى , وهي نقد ما قيل في تلك المواقع والنظر إلى السلبيات, تجدر الإشارة الى أن هذه القضايا ليست منحصرة على تلك الأقوال لكنني أرنو إلى نقد الفكر الأهوازي بصورة عامة وأريد أن اجعل هذا المقال فاتحة لتلك المقالات التي تتبعها أن شاء الله.الخص تلك النقاط التي سيدور رحى البحث في القادم حولها في النقاط التالية:
إطلاق الشعارات:
الكلمات التي لم تخرج من أفواه تستوعب ما تريد تقوله وتحاسب نفسها على كل ما تقوله, تصبح شعارات بلا جدوى وعديمة الفائدة وتاريخنا شهد تلك الشعارات الرنانة إذا لم اقل انه عانى ويعاني من هذه الشعارات.
غياب النظرة الواقعية للأمور:
ربما الفكرة الثورية هي احدى الأسباب الكامنة وراء هذا الغياب الذي يلقي بظلاله الرهيب والمدمر علينا, غني عن البيان إن الفكر الثوري في زمن الصمت يدمر الجميع. و أولى تداعياته تتجلى في عسكرة المجتمع ومنح الذريعة للحكومات المركزية لقمع الحركات مهما كان هدفها ودورها ومهما كان حجم حاملي لواءها, عندئذ يصبح الكذب وأصحاب المصالح لهم الدور البارز…
هيمنة النظرة الخيالية:
السمة البارزة لهذا النظرة هي التحدث بما لا يرضيه لنفسه ولا يعمل به بتاتا. أريد أن الفت النظر إلى قضية من بين تلك القضايا التي أصنفها في هذه القائمة ألا وهي قضية المرأة, فعند الحديث عنها نصبح فيمينين ونطالب الآخرين بمنحهن حقوقهن ونقدم تفسيرات عجزت أفواه المنظرين عن التحدث حولها, ثم نقدم الأدلة لتأخر نصف المجتمع[2], لكن لنرجع إلى بيوت هؤلاء ونرى كيف يعاملون أخواتهم وأزواجهم والحديث هنا حقا يطول بنا يا مولاتي…
أخيرا وليس آخرا اعتبر ما أشرت إليه عينة مما اسميها معاناتنا, فما نعانيه يتبلور من خلال الكلمات, لان الكلمات هنا لا تبقى مجرد كلمات إنها ليست كالكلمات, بل تعبر عن روح ثقافة, المجتمع المكون من ثقافة أولئك من يعتبرون أنفسهم يعيشون في العلالي والقمم, ويريدون الأخذ بيد المساكين.
[1] . بالله انتابني شعور بالخجل والحيرة والاستغراب في آن واحد, عندما قرأت بعض المشاركات على الشبكة العنكبوتية. لم ولن اقرأها بفكرة تقول إنها تعبر عن فكرة, يمكن الخروج بها كثمرة لثرثرة شخص, يجعلك تشك في كل ما لديه من قوى عقلية, بل إن كتابة الكلمات وعدم معرفته بأبسط القواعد العربية تثير اشمئزاز القارئ. اقرأ الجملة كي ترى بأم أعينك فحوى كلماتي هذه: نحنوا یجب علینا بدایة أن تعرف انفسنا ما نحنوا وأضيف لاحقا الأخ هذه العبارة صبحان الله… بالله أنها كلمات جديدة تثري اللغة العربية, إبداع أهوازي, مهتم بثقافته, قبل الاهتمام بثقافة الآخرين وألف ألف يشكر على إجادة اللغة وإثراء ثقافته… ويا ليته سكت دهرا ولم ينطق كفرا
[2] .تتكرر هذه العبارة بصورة مدهشة في تلك الأقوال, حيث تتصدر الكلمات الأكثر رواجا عندهم, وكأنهم انتهوا من تثقيف النصف الآخر, واتجهوا إلى النصف الثاني…
المصدر:مدونة الكاتب رحيم حمداوي
اخي الكاتب مقال جيد و مفيد و اتمنى لك الاستمرار في هذا النهج
إعجابإعجاب
رد الكاتب رحيم حمداوي على تعليق الاستاذة مريم جعبي،علما ان هذا الرد منقول من الفيس بوك:
بادئ ذي بدء أتقدم بجزيل الشكر وخالص الامتنان للأستاذة مريم
وأما بعد
ما أريد أن اذكره لا يعني دخولي في نقاشات عديمة الجدوى, لا تؤتي بنتيجة إلا السب والشتم, فانا بعيدا كل البعد عن هذه الأمور برمتها.
لكن أرى انه لا بد لي من كتابة هذه السطور كي أضع النقاط على الحروف وأدافع بها عن فكرتي ونثري هذا النقاش, لأنني اجزم إن السيدة جعبي لم تكتب السطور تلك إلا بدافع إثراء النقاش. فقالت:
… “لا يجيدون كتابة العربية كاملا ،هذا عتب يفتقد بعض من الإنصاف و الواقعية…” فأقول: بل أنها الواقعية بنفسها, لأنني أوردت عبارتين, كعينة من تلك الجمل, حتى لا يفتقد كلامي للمصداقية, ثم بالله عليك لو طلبتي من طالب مدرسة في أذربيجان وليس في الأهواز, ليكتب لك سبحان الله هل يكتبها صبحان الله؟ أ ليس هذا استخفافا باللغة العربية؟
وقالت:”و إذن كيف نسحب البساط من الاسباب الاصلية التي ادت بهذه الظاهرة و نلغي اللوم علي الاضحياء الذين رغم كل هذ الحرمان يحاولون الاستمراريه في الكتابة فيها؟”
وأقول: أوافقك الرأي بأننا جميعا ضحايا, لكن السؤال هو هل هذا يصبح المبرر لنتكئ عليه في الدفاع عن تلك الأخطاء المشينة؟ أ لم يقود الشعوب مثقفوها وحاملوا الشهادات الجامعية؟ ثم إن التاريخ يقول لنا إن الضحية ينهض يوم ما ويثور على نفسه رغم الداء والأعداء, ولنا أمثال كثيرة في العالم العربي المحيط بنا في هذا المجال, لكن وللأسف كأنك تريدين تبرير تلك الأمور.
وقالت”و تبقي العربية لغة مختصرة علي فئة خاصة من متخرجين الادب العربي لو من حالفهم الحظ واتقنوا العربية” . فأقول: لا استغرب مثل هذه العبارات لأنني سمعتها ألف مرة ومرة. قيل لي: إن شباب العرب من يجيدون العربية هم خريجو اللغة العربية وبهذا يرتاح القائل من عبء المسؤولية الملقاة على عاتقة حتى إذا أراد أن يقول: الجادة داغون وبيها دس انداز لا يجد من يقول له كفى يا ولدي ما هذه الخزعبلات؟ ثم أريد الفت انتباهك مولاتي والجميع بان يا معشر مثقفي العرب لكم في كوردستان خير مثال. الإخوة في كوردستان لم يدرسوا اللغة الكوردية في المدارس ولا في الجامعات بيد أنهم يحافظون على لغتهم ويجيدونها وملتزمون بالتحدث بها. بل الكتابة بها, ثم أنهم لا يتمتعون بدول جوار كوردية تماما كما الحال عندنا وهل يكفي هذا أم عليه أن أضيف الأكثر؟؟؟؟ فأقول ينتابني الخجل بل وينتابني الخجل وسأكررها, إذا لم نستطيع أن نتكلم العربية ونحن ندعي بأننا أقدم الشعوب العربية على وجه المعمورة….
ثم أوردتي ثلاثة عبارات أثارت انتباهي إلا وهي: “هي نقد الفكرة من خلال نقد القائل” و”و ليس سيرة حيات لو شهادات او منشورات قائلها” و”بان نضع علامات استفهام علي الفكرة و لن ناخذها بمحمل”
فأقول: اسألي التاريخ بان هل يذكر لك نبيا يدعو الناس إلى عبادة الله وهو ملحد في البيت؟؟؟ أي أنبياء نحن نقوم في البيت بعمل ما وفي الشارع بآخر وبين الأصدقاء بنحو آخر, كفانا الله شر المنافقين…
ونعم وألف نعم: “لكن علينا أن نكون صبورين نحن نرث عقود…” نحن نرث عقود… لكن هل علينا أن نبرر كل أعمالنا بمثل هذه العبارات التي أصبحت أفيون تاريخنا؟
إعجابإعجاب
اشكرك اخي رحيم علي ارسال الرابط و لي بعض ملاحظات استاذن من حضرتك للادلاء فيهن:
1- الغاء اللوم علي بعض الاصدقاء و الصديقات لانهم لا يجيدون كتابة العربية كاملا ،هذا عتب يفتقد بعض من الانصاف و الواقعية ، لان من اهم مطالبنا و امنياتنا هي الحفاظ و تطوير اللغة العربية في الاهواز التي مازالت قيد تحديات كثيرة و اذن كيف نسحب البساط من الاسباب الاصلية التي ادت بهذه الظاهرة و نلغي اللوم علي الاضحياء الذين رغم كل هذ الحرمان يحاولون الاستمراريه في الكتابة فيها؟ هذه الروية تسبب انسحاب كثيرين من الكتابة في العربية او الرجوع الي اللغات الرسمية و تبقي العربية لغة مختصرة علي فئة خاصة من متخرجين الادب العربي لو من حالفهم الحظ واتقنوا العربية كلاما و كتابتا كاملا في البيت.
اوافقك الراي بان علي كل شخص ينتسب نفسه للغة العربية ان يعمل لاجل تطوير لغته. لكن اختلف معاك “بان ينتابني خجلا و…” .انا شخصيا دايما ادعي كل من حولي في النطق و الكتابة باللغة العربية و لو الدارجة هنا و حتي المختلطة مع اللغات الاخري ، افضل من الخشية من الاخطاء و الابتعاد منها كليا.
2- النقطة الاخري التي اوردت في هذه المقال هي نقد الفكرة من خلال نقد القائل و لا اري هذا مطبق علي معايير النقد و حتي الحرية في ادلاء الراي. ما يعطي الفكرة اعتبارا هي تمتعها باسس عقلية و منطقية في بيانها عن نفسها. و ليس سيرة حيات لو شهادات او منشورات قائلها. بلا شك اسلوب الحيات الشخصية والشهادات و الدراسات تغنيها موضوعيا و لكن لا تعطيها اعتبارا موروثا . في موضوع المراة انا اوافقك بعض الراي ان الحديث عليه اصبح اكثر جاذبية من تطبيقها في الحيات الشخصية لكثير من الرجال و حتي النساء. لكن اخالفك الراي بان نضع علامات استفهام علي الفكرة و لن ناخذها بمحمل جد بسبب سلوك الشخصي لقائلينها. رغم هذه الجذابية ،هذه الحوارات في اطياف مجتمعنا قليلة جدا مختصرة علي فئة خاصة . و ازديادها في المحيط الواقعي و العنكبوتي (حتي لو كانت بعيدة نسبيا عن الواقع) يجعلها اكثر مالوفة و قريبة من ذهن الناس و يسهل تطبيقها.
3- اتفق معاك كاملا ” الاختلاف لابد أن يكون حضاريا، معبرا عن حب الأخر و محاولة الرقي به و ليس التجريح و الهدم” . لكن علينا ان نكون صبورين نحن نرث عقود في منظماتنا الاجتماعية من خطاب يرفض التعددية و يملئ فكرته في كل اركان حياتا الشخصية و الاجتماعية . رغم هذا اننا كجزء من المجموعة البشرية المتحركة نحو تكريم حقوق وحرية الانسان ، نحن ايضا في مسيرنا الي الانفتاح رغم تاخرنا النسبي. ولا حل لنا الا التمرن علي قبول مبداء التعددية و قبول الاخرين.
إعجابإعجاب