أضحى الحكم المحلي مثار جدلٍ محتدم في دول الإقليم على خلفية تصاعد الاستقطاب السياسي وصراعات السلطة، إذ تُعد المحليات أو البلديات بمثابة البيئة القاعدية للديمقراطية، والكيان الوسيط بين النظ الحاكم والمجتمع، كونه مناط أداء الخدمات الجماهيرية، والتي غالبًا ما كانت مرتبطة بالمحسوبية السياسية أكثر من الاستجابة الحقيقية للاحتياجات الشعبية، بما يجعله وثيق الصلة بالشرعية السياسية. فقد تصاعدت حدة الإشكاليات التي يثيرها الحكم المحلي، بحيث لم تعد قاصرةً على تردي الخدمات العامة، وباتت تشمل قضايا تفاقم الفساد، والنزعات الطائفية، والاحتكار السياسي، وآليات تداول السلطة، ومطالب اللا مركزية، بما يشير إلى أن المسارات المحتملة لتطور نظم الحكم المحلي ستكون واحدة من المحددات الحاكمة للتطورات الداخلية في دول الإقليم.
جدل متصاعد
فجرت الصراعات السياسية المحتدمة في دول الإقليم جدلا متصاعدًا كان محوره الحكم المحلي، ففي مصر أثار تعيين الرئيس محمد مرسي 17 محافظًا من بينهم 7 محافظين من جماعة الإخوان المسلمين
ردود فعل احتجاجية، ومواجهات عنيفة، واعتصامات شهدتها عدة محافظات مثل الغربية وكفر الشيخ والمنوفية ودمياط والإسماعيلية، بينما اتخذت الاحتجاجات في مدينة الأقصر منحى تصعيديًّا نتيجة الاعتراض على تعيين عادل الخياط القيادي في حزب البناء والتنمية الذراع السياسية لتنظيم الجماعة الإسلامية محافظًا للأقصر، ما دفع هشام زعزوع -وزير السياحة- إلى تقديم استقالته، غير أن الأزمة انتهت برفض الخياط قبول المنصب.
بينما شهدت الانتخابات البلدية في العراق التي جرت في 19 يونيو الجاري بمحافظتي الأنبار ونينوى تصاعدًا لأعمال العنف والتفجيرات التي أدت إلى مقتل ما لا يقل عن 9 مرشحين، واستهداف مقرات الانتخاب في احتدام الصراع بين القوى السياسية، ولعل فوز قائمة “متحدون” بزعامة القيادي السني أسامة النجيفي -رئيس البرلمان العراقي- بالمرتبة الأولى، في مقابل تراجع القوائم التابعة لتكتل دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي يكشف عن مدى اعتبار الانتخابات المحلية محكًّا رئيسيًّا في صراع السلطة، خاصة في ظل انتزاع تحالف كتلة المواطن التابعة للمجلس الأعلى الإسلامي والمتحالفة مع التيار الصدري وكتلة متحدون لأغلب المجالس المحلية العراقية بعد المرحلة الأولى من الانتخابات التي جرت في أبريل الفائت.
ذات التحولات شهدتها نتائج الانتخابات المحلية الإيرانية في 19 يونيو الجاري بتصاعد تمثيل قائمة الجبهة الإصلاحية، وحصولها على الأكثرية في أغلب المجالس المحلية، لا سيما في العاصمة طهران في مقابل إخفاق قائمة يحيا الربيع المدعومة من الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، بما يحمل توقعات بتناغم في الأداء بين رئاسة الدولة والمجالس المحلية.
وفي السياق ذاته، شهدت الأردن تقديم 81 شخصية نيابية وحزبية لمطالب بتعديل نظام الحكم المحلي، وتبني اللا مركزية الإدارية والمالية بدعم ميزانية البلديات بحصولها على نسبة من عائدات المحروقات، وتمكينها من جباية عوائدها، وتخصيص نسبة من ضريبة المبيعات على الخدمات والسلع لصالحها، وذلك بالتوازي مع بدء إجراءات التسجيل والترشح للانتخابات البلدية في منتصف يونيو الجاري، في المقابل شهدت الجزائر إضرابًا للعاملين بالبلديات، لا سيما في ولايات البويرة وبومرداس وقسنطينة وبجاية وسطيف للمطالبة بإدماج المتعاقدين والمؤقتين، واحترام الحريات النقابية ورفع الأجور.
معضلة الحكم الرشيد
هناك حزمة من المشكلات التي تواجه الحكم المحلي في دول الإقليم، والتي لا تقتصر على مستوى الخدمات العامة، وإنما تطال بنية الدولة والمجتمع والتمثيل السياسي والتناقضات بين التيارات السياسية وصراعات السلطة. وتتمثل أهم تلك الإشكاليات في الآتي:
1-ممارسات الفساد: باتت إشكالية الرقابة على ممارسات المحليات قضية خلافية، حيث كشفت تقارير حكومية أن الفساد في المحليات أدى إلى تشييد 318 ألف عقار مخالف، و415 مليون وحدة سكنية من دون ترخيص في كافة المحافظات، و775 ألف حالة بناء على الأراضي الزراعية منذ الثورة بقيمة 350 مليار جنيه، بينما شهدت لبنان مطالبة رابطة الجامعيين بطرح الثقة عن مجلس بلدية طرابلس بسبب شبهات الفساد وانعدام الكفاءة، ذات الجدل تصاعد في المغرب بعد الحكم القضائي على رئيس المجلس البلدي لسيدي يحيى بالحبس والغرامة بسبب ثبوت تقاضيه رشوة، بما أعاد الاهتمام لدعوات تكثيف الرقابة على ممارسات الحكم المحلي.
2- الصراعات الطائفية: أضحى التنافس على شغل المناصب المحلية في بعض دول الإقليم محكومًا بالصراعات الطائفية والمذهبية، ففي العراق تخللت أعمال العنف الانتخابات المحلية في محافظتي الأنبار ونينوى، وجاءت النتائج لتعكس وطأة التجاذبات الطائفية بفوز قائمة “متحدون” السنية، بينما شهدت التيارات الشيعية تحالفات بين كتلة المواطن المدعومة من المجلس الإسلامي الأعلى والتيار الصدري أدت لاستبعاد تكتل دولة القانون بزعامة المالكي من أغلب المجالس المحلية، بينما أدت مقاطعة القوى الشيعية للانتخابات المحلية في السعودية في 29 سبتمبر 2011 إلى استبعاد أغلب ممثليهم من المجالس المحلية، لا سيما في مناطق شرق السعودية وخاصة القطيف والإحساء، رغم وزنها الديمغرافي، بما يعد أحد أسباب الحراك الاحتجاجي المتتالي في تلك المناطق، بينما يعاني السنة وخاصة الأحواز والأكراد في إيران من تهميش كامل وحرمان من تولي المناصب السياسية، في حين يتوقع أن تشهد سوريا عقب نهاية الصراع الأهلي ذات الإشكاليات الطائفية على مستوى التمثيل في الحكم المحلي.
3- الاحتكار السياسي: على الرغم من اعتبار الحكم المحلي أحد آليات تقديم الخدمات الأساسية، إلا أن مساعي القوى السياسية لا تنقطع للسيطرة على مؤسساته، باعتبارها أحد مقومات بناء الشرعية السياسية، وربما تأسيس علاقات الزبونية السياسية لاقتناص الانتخابات البرلمانية، حيث أدى تعيين 17 محافظًا جديدًا في مصر لإثارة الانتقادات بسبب اختيار سبعة محافظين منتمين لجماعة الإخوان المسلمين، بما يرفع تمثيل الجماعة إلى 13 محافظًا من بين إجمالي 27 محافظًا، ولعل هذه الاعتبارات هي التي دفعت القوى السياسية المعارضة لرفض مشروع قانون إنشاء مجالس محلية مؤقتة من المحايدين سياسيًّا حتى إجراء الانتخابات المحلية في 15 يونيو الجاري في ظل أزمات الثقة بين القوى السياسية.
4-تردي الخدمات الأساسية: لا تملك المحليات من الموارد أو القدرات الفنية ما يؤهلها لإمداد الخدمات الأساسية بكفاءة بما يؤدي لإثارة سخط المواطنين، ففي السعودية تصاعدت حدة الشكاوى في الأحياء الطرفية بالمدينة المنورة والدمام من تردي الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والنظافة والمرور، ما دفع بعض المواطنين إلى مطالبة أعضاء المجالس البلدية بالاستقالة نتيجة التقصير، بينما شهدت الكويت شكاوى متصاعدة من تردي البنية الأساسية، مثل الطرق وخطوط الكهرباء والمستشفيات، وربما يعتبر تردي الخدمات الأساسية أحد أهم دوافع حركة تمرد في مصر، خاصة أزمات انقطاع المياه والكهرباء ونقص السولار وتردي الخدمات الصحية المحلية.
مسارات بديلة
على الرغم من ارتباط قضايا الحكم المحلي بالتنمية الاقتصادية والخدمات الأساسية، فإنها باتت تثير زخمًا واستقطابًا سياسيًّا غير مسبوق قد يؤدي إلى تأجيج حراك احتجاجي أو توسيع الهوة بين القوى السياسية ذات المصالح المتعارضة، خاصة في ظل تركيز التيارات السياسية على الحكم المحلي باعتباره أداة لتعزيز أو تقويض شرعية السلطة، وكمساحة للتمثيل السياسي دونما اعتبار للوظيفة التنموية الخدمية العابرة للانتماءات الحزبية التي تؤديها مؤسسات الحكم المحلي، بما ينعكس على تردي الخدمات الأساسية التي قد لا تحظى باهتمام شاغلي المناصب المحلية من السياسيين.
وإجمالا، تنحصر مسارات القضايا الإشكالية المرتبطة بالحكم المحلي في عدة سيناريوهات، أولها يتمثل في استمرار المركزية، وتصاعد الصراع السياسي على الحكم المحلي كأحد مساحات السلطة بما ينعكس سلبًا على تماسك واستقرار وكفاءة القطاعات المحلية. وثانيها يتمثل في تحقيق توازنات سياسية ومحاصصة طائفية في تولي مناصب الحكم المحلي، باعتبارها مساحة لتقاسم السلطة والتمثيل السياسي على غرار النموذج اللبناني، وهو سيناريو مطروح في الحالة السورية عقب نهاية الصراع الأهلي، أما السيناريو الثالث فيتمثل في تبني اللا مركزية الإدارية وإجراءات التداول الديمقراطي الانتخابي للسلطة، وتعزيز الموارد الاقتصادية للمستوى المحلي من الحكومة، بما ينعكس إيجابًا على مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين، وتعزيز شرعية نظم الحكم في الإقليم.
(*) مدرس مساعد العلوم السياسية- جامعة القاهرة
نشرت في التحولات الداخلية
تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.