قراءة في قصيدة “هليام” للشاعر؛ حسن عاشور/ بقلم:علي عبدالحسين

اللوحة من رسم الفنانة الاحوازية الاستاذة سهام سجيراتي
اللوحة من رسم الفنانة الاحوازية الاستاذة سهام سجيراتي

“هليام”
مانی لایگ الروحي

هلیّام

بصبي الجرح بیدر ملح

بطران الیگله ولک نام

هلیّام

أرد اضم عسري

لچن

ما عندي مضمام

هلیّام

الشمس

إبني الخلص صبره

گعد یرسمها بصخام

أثاریها مِحنتي

چن عیوزه تضَمضُم بصُرّة ألمها

الهاي الأیام

شبّاچی الغبار معشّش بجامه

أمسحنّه

ویرد امغبّر الجام

سهرت ویه الجرح

ما طبِّگ عیونی

بعد ما رید الاحلام

بنهرنه بلام ودّینه

النویة الشمس

لا رَوَّح بلم

لا رجع بلّام 

*** 

الشاعر المرموق؛ حسن عاشور، هو من أبرز شعراء الاهواز، الذين قاموا بتجديدٍ في الشعر، وخاصة الشعر الدارج. وكلنا نعرف أن الشعر الدارج او الشعبي عصيٌ على التغيير. ولان جمهورهُ أقل مواكبة للعصر وما يرفقهُ من فكر وتنوير..يبقى هذا النوع من الشعر أقل تطوراً من حيث الشكلِ والمضمون. وكان ومازال هناك نقاشٌ بين الادباء حول الافضلية بين الشعر الشعبي والفصيح، فلابد من تأكيدٍ على أهمية الشعر الشعبي والدور الهام الذي يؤديه بين اوساط الشعبِ من حيث نشر الفكر الوطني، والتنويري الى حدٍ ما.

فلا يجب الاستهانة بالشعر الشعبي ابداً، فهناك المئات بل الآلف من أبناء شعبنا يزاولون الشعر هذا، ويساعدون في إحياء ونشر اللغة العربية بشكلٍ وآخر. ولاننسى إذ نؤكد وللمرة الثانية، أن الشعر الشعبي بمقدورهِ أن يُوصل التنوير والفكر الوطني الى اوساط الشعبي أكثر مما يستطيع الشعر العربي الفصيح. هذا من جانب ومن جانبٍ آخر، أنَّ الشعر الشعبي يعبر عن مشاعر الانسان الاهوازي بشكل أوسع واعمق من كيانه الروحي. – النفسي
وأما شاعرنا القدير السيد حسن عاشور قنواتي المحترم، فهو صاحب تجربة فريدة في الشعر الشعبي الاهوازي وخاصة في مجال القصيدة. كان ومازال القول الشائع يقول: أن القصيدة للعراقيين والابوذية للاهوازيين. ولكن اقلام شعراء مثل عاشور سوف يساعد في إحياء واثراء القصيدة الشعبية الاهوازية الى حدٍ بعيد. وأن السيد عاشور قام بتجديد للغة الشاعرية الشعبية الاهوازية كما قام الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب، فطوَّر لغة الحاج زاير القديمة الى لغة أدق وارق واكثر مشاعر..
كذلك فعل الاستاذ الشاعر حسن عاشور في لغة الشعر الشعبي الاهوازي، فصنع من لغة قديمة تطغى عليها مفاهيم ومفردات ومشاعر آيدلوجية، وقبلية وغزلٍ مبتذلٍ مكرورٍ الى لغةٍ بعيدة عن الآيدلوجية الى حدٍ ما وقاصية عن القبيلة وعصبيتها وكذلك خارجة عن الغزل الشعبي المبتذل، الى لغة دقيقة تتمحور حول الاشياء الصغيرة التي هي اكثر رقة واثارة للاحساس الانساني. على كل أن لغة عاشور الشاعرية هي لغة الاحساس وليست لغة المفاهيم والمصطلحات الكبيرة التي قد جوَّفها التكرار والابتذال والشعار.
وأما قصيدة “هليام” وهي من نوع قصيدة التفعيلة الشعبية، على وزن الهزج(مفاعيلن). إن الانشاد في التفعيلة الشعبية، او بما يُسمى الشعر الشعبي الحر، هو تجديد في الشكل، قام بهِ شعراءنا الشعبيون منذ عقدين. وقد توفق الكثير منهم أنْ يبرعوا فيه. والاستاذ عاشور هو من ضمن هؤلاء الشعراء المجددين في شكل (ومضمون)القصيدة الشعبية الاهوازية، بل أنه أكثرهم نجاحاً في التجديد بالشكل والمضمون.

وقصيدة “هليام” هي بث شكوى تبدءُ من اعماق الذات فتتقدم لتصل المجتمع كله. فالقصيدة فردية-اجتماعية في آنٍ واحد. وهي مشحونة بمفرداتٍ رقيقة ترشح بحزن انساني عميق. والجدير بالذكر أنها تبدء وتنتهي دونما صخبٍ، او مبالغة كبيرة في تبين المشاعر والمواقف. وهذه صفة من صفات الشعر الجديد، إذ أنه لا يترك المجالَ للافراط في التعبير بل جُل همه ينصب في التعبير الصادق فحسب. الامر الاهم في الشعر الحديث هو الصدق في المشاعر، المشاعر التي نعيشها ونجربها فننقلها فناً وجمالا ودروساً اخلاقية انسانية.

مانی لایگ الروحی

هلیّام

بصبی الجرح بیدر ملح

تبدءُ القصيدة بالنفي، والنفي علامة معروفة للرفض. رفض ما يعيش ويواجه الانسان من امور واقعية داخل وخارج نفسه. ولكن أشد رفض هو رفضٌ للذات نفسها. بعبارة اُخرى هو رفضُ الرفضِ. رفضٌ ينبع من صميم الرافضِ. “ماني لایگ الروحی” ومفردة الـ “لایگ” تحملُ جمالية خاصة في اللغة الدارجة، حيث نستعملها عندما نلبس الثياب الجديدة، فنسمع بان هذه الثياب لایگه علينا. او العكس.. العكس الذي ياتي بهِ الشاعر ليبين عدم راضاه بجمالية شعبية، فهو استياء بمفردة جميلة.

استياء الشاعر آتٍ من أن : جرحه ممتلئٌ بالملح. ولكن لا يكتفي الملح بملأ الجرح فحسب بل يملأ مركز الجرح، الذي يعبرُ الشاعر عنه بـ صبي، وهو إنسان العين، أي أهم نقطة العين. او محور وقطب العين. فالشاعر يحسُ بان أعمق أعماقه ممتلا بالملح، اي الوجع او عامل الوجع. هذا بدل من أن يكون الجرح واعماقه،تُضمَّد وتمتلأ بالدواء!
بطران الیگله ولک نام

هلیّام

والشاعر هنا ينوب، او يجعل نفسه مكان الجرح، ليدرك مأساته، فيقول: أنَّ من يقول للجرح “نامْ”، فهو في حالة جيدة، أنه في بطرٍ من أمره. وهنا اشارة انسانية جيدة تبرز في القصيدة وهي أن نُحاول ادراك وتفهم الآخرين، فيمكن أن يشعر الآخر بشئ، نحن لم نشعر به ، او تجري عليه امور لم نقترب منها، فنظلمه بهضم حق او فرض باطل. اذن التفهم و الادرك هما من اهم مرتكزات الاخلاق الانسانية للبشرية جمعاء.

أرد اضم عسری

لچن

ما عندی مضمام 
ومن البديهي أن العسر الشديد لا نستطيع اخفاءه مهما حاولنا. الحزن الكبير او البلاء الجلل لا يُخفى على احد. ومن قيم العربِ التجلد، وعدم الرضوخ للصعابِ. وقد تكون قيمة عالمية ولكنها اكثر حضورا في الثقافة العربية. فمن تبرزُ مشاكله يخشى الشامت الذي يعيب المرء بالضعف والانكسار والهزيمة وهذا ما يؤدي الى التقليل من شأن المُعاب عليه. لهذا الشاعر يُحاول ان يُخفي عُسره، خشية العار الذي يُثيرُ الشامت، او أنه اذ شوهد في عسر وشد قد يُقال عنه ضعيف او مكسور..ولكن شاعرنا يفشل في اخفاء عسره، وهذا يدلُ على وقوعهِ في الشماتةِ وقلة الاحترام والحيثية في المجتمع..وهو امرٌ صعبٌ جدا لدى العربي ذو الثقافة المبنية على الشرف والكرامة الكامليين.
 هلیّام

الشمس

إبني الخلص صبره

گعد یرسمها بصخام

ينفد صبر ابن الشاعر فيقوم برسم شمس سوداء. وهذا البيت لوحة من يأسٍ كبير، وفي نفس الوقت مؤلم لانه ليس يأس الكبار الراشدين فحسب بل يأس الاطفال الذين لم يعدوا يروون النور ويفرحون به ويبنون مستقبلهم باحلام الطفولة تحت اشعته الدافئة. كما اظن ان هذا البيت اشد وقعاً على روح القارئ واكبر ايلاماً للنفس من سائر الابيات في هذا القصيدة. فان يأس الاطفال وتسويد الشمس شفرتان يحزان الروح الانسانية حزاً حزيناً مؤلما… وقضية الطفولة الاهوازية مُبكية ومُحزنة ومخزية في نفس الوقتِ. الطفولة عندنا مشقة وهدر للزمن الملائكي..ولابد من وقفاتٍ موسعة ممنهجة علمية وادبية نقف أمامها عسى أن نقدم شيئاً وجيزاً تجاهها.
ولا أنسى، ان اشير الى أن مبلغ اليأس لدى الطفل دال على أن هذا اليأس أكبر واكثر عند الانسان الراشد.. وهو الشاعر والانسان الاهوازي. وما يلفت الانتباه اكثر هو آلة الرسم. ولم يقل الشاعر ان طفله يرسم الشمس بريشة لتصبح سوداءَ، بل انه مباشراً يقدم السُخام آلة رسمٍ لازالة النور-الامل من على وجه الشمس. والسُخام كما نعرف، أنه الدخان الاسود المتجمع على آنية الطبخ وغيرها..اذاً الوسيلة لازالة الشمس ليستْ سوى مادة دالة على الموت والفناء وانتهاء اللهبِ والقذارة…وهي السواد المطلق.
أثاریها مِحِنتی

چن عیوزه تضَمضُم بصُرّة ألمها

الهای الأیام 
كثرة المشاكل تجعل الشاعر يُصوِّرُ أن ازمتهُ جمعت آلاماً عدة ومن زمنٍ بعيدٍ لتقدمهُ له مجتمعاً في ايام معدودة. والـ “عيوزة” او المراءة المسنة دليلٌ على أن ازمتهُ كثيرة الحسابِ، دقيقة في فعلها، لا تدع لا شاردة ولا واردة من الآلام حتى مسكت بها وجمعتها لتكون محفوظة وحاضرة في أيام شدتهِ. واما مفردة الـ صرة، توحي للمخيلة بكمونٍ او مخزنٍ، هو في الواقع اسرار الشاعر، او مشكلاته..لكن وكما اشَّر مسبقاً أنه عاجز عن الغلبة عليها..فتخرج من الصرة لتبدء بإيلامهِ داخلياً وخارجياً، فردياً واجتماعيا.
شبّاچی الغبار معشّش بجامه
أمسحنّه

ویرد امغبّر الجام 
والشباك او النافذة، هو من اجمل ما يحتويه المنزل. فالشباك مدخل النور الى المنزل، ومكانٌ يطلُ على مشاهد جميلة مثل الحديقة او الشارع او الحقول..ومن جانب آخر أن النافذة تستطيع أن ترمز الى العينِ، نقطة التقاء النور الخارجي-الجسدي والنور الداخلي الروحي. اذن الروح او روح الشاعر تُغبر او أن الغبار يبدء ببناء عش عليها. والعُش ليس امراً جديداً بل يدل على القدمة. والشاعر يقوم بمسح الغبار من على شاشة روحهِ ولكن يبوء بالفشلِ. والغبار هن ليس غير الهواجس والقلاقل والهموم..التي يستحيل مسحها من على صفحة الروح المصنوعة كي تطل على النور والحياة سوية.
سهرت ویه الجرح

ما طبِّگ عیونی

بعد ما رید الاحلام

حيثُ الألم، لن يحل النوم. والجرح أكبر واوضح دالة على الالم. الجرح علامة خرق وخراب للطبيعة، ولما هو طبيعي وسليم وصحيح. والجرح بداية ألم ونهاية ألم..للجرح حكاية تتوغل في القدمِ، حيث إنشقاق وانشطار الخلق من مخلوقهِ. فالجرح خلق مرفق بالالم. يُوجب السهد والسهر. وفي السهد والسهر الم و معاناة، وفي هذين الامرين حرق ونضج للكيان البشري، حيث المسؤولية والاهتمام والتضحية.
بنهرنه بلام ودّینه

النویة الشمس
حسب قرائتي أن النهر هو الحياة. حياتنا الاجتماعية. و “بلام” او الزوارق هي عبارة من الاعمال والنشاطات المتعددة الجوانبِ من اجل سيرورة الحياة. زوارقٌ وجهناها نحو الشمس رمز البقاء والامل. الشطران دالان على مشهد جميل في صباح شاطئ نهر او بحر حيث تبحر في المياهَ رجالٌ ملاحون يركبون الزوارق يسيرون بين ضفتين نهر او على صفحة البحر، الى الشمس الراقصة الدافئة باشعتها الصبية ذات ساعة او اقل من عمر الصباح.

لا رَوَّح بلم

لا رجع بلّام

يختتم الشاعر الاهوازي العزيز حسن عاشور قصديته بتراجيدية حزينة. حيث لا يرجع زورقٌ ولا ملاحٌ او صياد. وقد يُشير صاحب الكلماتِ الى إنعدام الرزق والفقر..والاصعب من الفقر عدم رجوع الصيادين (الناس- الاحبة). وفي هذه اللوحة فقدٌ للقوت والانسان.. وفيها حزنٌ على الرزق والانسان..وفيها جمالية شاعرية ممزوجة بحزنٍ اجتماعي واسع وعميق..اللوحة تتكون من الموتِ والامل المتصارعان في ملعبٍ جميلٍ هو الماء- مصدر الحياة..لكن المغلوب هو الامل-الانسان -الزورق دونما نصرةٍ من المياه مصدر البقاء.

وأخيراً، إن القصيدة عبارة عن حبكة متماسكة الخيوط ذات هدف واحد. لديها اتجاهات متعددة واشارات مهمة. الموسيقى والقافية يجعلانها اجمل واكثر متعة. والمفاهيم والرؤى الانسانية يحببانها للانسان المثقف، وان بعديها الفردي والاجتماعي يفتعلان فينا همين؛ همنا وهم الاخر معا ليكونا هماً اكبر واعمق واشمل. أن الاثر الابداعي
يجمع عناصر كثيرة في ذاته وهو لا يكون ابدا ذا بعد واحد. فكلما قلت ابعاد الاثر، كلما قل فيه الابداع…وشكراً

المصدر:صفحة الاستاذ محمد الاميري

تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

موقع ويب تم إنشاؤه بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

%d مدونون معجبون بهذه: