“حكايات أبي”-ثلاثة قصص قصيرة- للكاتب سعيد مقدم (أبو شروق)

789978556563كان يجمعنا بيت واحد: أمي وأبي ونحن الأربعة وأختنا العزيزة (أم سلمان).

شتتتنا سيرة الحياة، تزوجنا وذهب كل منا إلى حياته الخاصة؛ وبقى أبي وأمي وحيدين في البيت.
عرضت عليهما أن ينتقلا إلى بيتي ليعيشا معنا (وأدري أن أم شروق سوف تستقبلهما أحسن استقبال)؛
لكنهما رفضا أن يهجرا بيتهما؛ فصرت أزورهما كل يوم علمًا بأن بيتي يقع على بعد كيلومتر واحد عن بيتهما.
وكلما زرتهما استقبلاني ضيفًا عزيزًا وكأني لست ابنهما وكأن ما أقوم به ليس واجبي.
وفي كل زيارة يتكلم أبي عن ماضيه وعن ما سمعه آنذاك، وسأنقل بعض ما حكى لي من طرائف وقصص وخواطر:

حكايات أبي(1)

من الأشجع؟

دار حوار الشجاعة بين رجلين من القرية.
قال أحدهما: أنا الأشجع.
وادعى الثاني أنه هو الأشجع.
فتشارطا على أن الأشجع من يستطيع أن يذهب إلى المقبرة بعد منتصف الليل ويدق وتدًا معينًا في وسطها!
ثم يرجع ويجلب معه الحاضرين بفوانيسهم ليريهم مكان الوتد.

ذهب أحدهما ودق وتده ورجع، وتبين أنه أثبت شجاعته.

ثم ذهب الثاني،
وصل إلى وسط المقبرة،
انحنى ليثبت وتده،
ضرب بمطرقته ضربات متوالية على رأس الوتد، ومن شدة فزعه كان يلتفت إلى الوراء تارة؛
وبرعب إلى الأمام تارة أخرى،
وبذعر إلى شماله، ويمينه وفوقه وتحته.
وفي كل ضربة يتراءى له الأموات والجن وهم محيطون به يوشكون أن يقبضوا عليه!
وبعد أن ضرب آخر ضربة وهمّ بكل قواه أن يفرّ من بين القبور الموحشة، تفاجأ بأنه لا يستطيع؛
وكأن ميتًا أو جنيًا يمنعه من الفرار!
عبثًا حاول أن يفلت منه، كان قد ربطه باستحكام…
ومن شدة خوفه وفزعه خرّ صعقًا.
المسكين لم ينتبه أنه أنبت الوتد على (دشداشته)!

استطاع أهل القرية تلك الليلة أن يرجعوه إلى بيته،
لكنه لم يكن الرجل الذي يعرفه الجميع…لقد جُن.
——-
الدشداشة: ثوب يشتمل على الجسد كله، جلباب

حكايات أبي (2)

(الطنطل)

اليوم زرت والديّ صباحًا،
ألقيت عليهما تحية الصباح:
صباح الخير والسعادة.
أجابا: صبحكم الله بالخير والكرامة،
سأل أبي: كيف ماجد؟
تبسمت وقلت: لماذا لم تسأل على أخيه أوأخته؟!
نظر نحوي ثم أجاب: لأنه الأصغر!
لا أدرك بعد فلسفة معزة الحفيد الأصغر، فسكتُ وجلست جنبهما.
كانت أمي تصب له الشاي الذي لا يشربه إلا أن يكون مغليًا على الجمر.
نهضتْ من مكانها وأحضرت لي التفاح والبرتقال، شكرتها كثيرًا وطلبت منها أن لا تنهض من مكانها بسببي.
تبسمت وقالت: ألست ابني العزيز؟
شكرتها ثانية وقشرت البرتقال وقسمت التفاح لنأكل معًا.

وشرع أبي يحكي لي عن الماضي فقال:
في تلك السنة، رجع (رزيج) بغنمه التي ترعى في الصحراء، بعد منتصف الليل.
سألته: وكيف كنتم تعرفون أن الليل قد انتصف؟
قال: من صياح الديكة، ومن النجوم.
وبدأ يشرح لي عن النجوم : توقيت الثريا، متى تظهر ومتى تغيب! توقيت الميزان… وكأنه متخصص في علم النجوم!
ثم تابع حكايته: عندما رجع (رزيج) وكانت (الدنيا قمرى) أي كان القمر يشع بأنواره على الأرض وكأنه مصباح كبير يضيء الصحراء بأكملها، وجد قطاة منتفة على الطريق، فظن أنها سقطت من الصيادين، فمسكها وحملها معه.
خطى خطوتين أو ثلاثة، وإذا به يسمع صوتًا من خلفه ينادي بشجن:
أين أنت يا بني؟ إلى أين ذاهب؟
أجابت القطاة المنتفه التي يحملها رزيج: أنا ذاهب مع عمي!
فأخرجها رزيج من (دشداشته) ورماها بكل قواه بلعن وسب: اللعنة عليك وعلى عمك.
ثم تابع طريقه دون أن يخاف!

سألته معترضًا: لم يخف؟ تعرض له (طنطل) وهو في الصحراء وحيدًا والدنيا مظلمة … ولم يخف؟
أجابني أبي: الخوف نقيصة يا بني.
ثم ليست المرة الأولى التي يظهر فيها (طنطل) في الصحراء! سبق وظهر لرجال آخرين!

لم أقل لأبي أن هذه أساطير؛ ولم يوجد (طنطل).
أقنعت نفسي بربما الطنطل هو نوع من الجن.
ولكني سألته: هل رأيت الطنطل في حياتك آنذاك؟
أجاب: لم أره بعيني، لكني سمعت عنه الكثير.
قلت: ولماذا لا يوجد الآن؟!
قال: لأن الأرض وُطئت بكثرة الناس والسيارات، فربما هاجرت الطناطل إلى أراض أخرى….ربما؟ …أليس كذلك؟
——
رزيج: اسم شعبي ومصغر من رزق
الطنطل: كائن من الأشباح، نسمع عنه في الحكايات القديمة.

حكايات أبي (3)

البخل

بالأمس ولأسباب خاصة لم أزر والديّ؛
اليوم عندما دخلت البيت وسلمت عليهما، اعتذرت لهما.
قال أبي مبتسمًا: البارحة (غدت الغيبة للهامة)،
ثم قالت أمي: أبوك يمزح، لا نذكرك إلا بالخير.
فحمدت الله وشكرته. ثم طلبت منهما أن يأتيا معي إلى بيتي لتناول الغداء معًا، فقبلا دعوتي.
وعندما جلسنا في بيتي، بدأ أبي يحكي عن الماضي:

في تلك السنة، تزوج عاصي في قرية (العقلة) وهي إحدى قرى الجراحي.
لدي عاصي غنم كثيرة ولكنه بخيل…بخيل جدًا!
في ليلة زواجه تسلف (دشداشة) من أحد الجيران! لأن دشداشته خرقة بالية ولا تصلح لليلة الزفاف.
ثم في صباح عرسه أعادها إلى صاحبها.

وذات مرة زارنا فقير يستعطي؛ هذا أعطاه صوفة، وذاك أعطاه سمنة، وذلك حنطة أو شعير أو رز.
عندما دق هذا الفقير باب عاصي، اعتذر منه وقال:
لو جئت في الشهر الماضي، لأعطيتك؛ في هذا الشهر أنا (مكلوف). وكان يقصد أن تكاليف الحياة أتعبته.
ومن يومها عُرف بـ (المكلوف) في القرية.

لم يسمح لزوجته أن تشرب الشاي، الشاي الموجود في البيت له وحده فحسب.
فزوجته المسكينة تسرق حفنة من شايه وتخبئها في الخرائب، ومتى ما سنحت لها الفرصة تسللت إلى الخرائب وهيأت لنفسها شايًا وشربته هنالك بين الحشرات والنمل والأفاعي!
وقد تراها أم عاصي فتخبر ابنها (ليؤدبها) بسبب سرقتها!
وكانت طريقة تأديبه لها بالعصا والضرب على الرأس حتى تسيل منها الدماء!
في الغداء والعشاء والإفطار، يراقبها حتى لا تأكل كثيرًا، وقد ينبهها إن كبرت لقمتها أو أوشكت على الشبع.

ثم أطلق أبي آهة عميقة وتابع فقال:
اليوم جميعهم ذهبوا إلى رحمة ربهم، الله يرحمهم ويسامحهم ويغفر لهم.
ثم توجه صوبي وقال: الناس نفوس يا ولدي، لكل نفسه:
منهم كريم، سخي، معطاء؛ يجود على أهله وعلى جيرانه وعلى الفقير والعائز.
ومنهم بخيل، شحيح، دنيء؛ لا يهون عليه شرب الماء.
ثم أنهي حكايته وهو يقول:
البخل نقيصة يا بني،
البخل ليس من شيم العرب؛
على العربي أن يكون أريحيًا، كثير العطية، لا يسد بابه في وجه سائل.
———–
المكلوف: ليس من أتعبته تكاليف الحياة؛ إنما نقلتها مثلما استخدمها عاصي.

المصدر:الفيسبوك-صفحة الكاتب سعيد مقدم (أبو شروق)

تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

موقع ويب تم إنشاؤه بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

%d مدونون معجبون بهذه: