ملاحظة: أحداث هذه القصة وقعت سنة 1356هـ ش الموافق 1976 قبيل الثورة في ايران، واسم صابر مستعار.
الحلقة الأولي
نهر من الحزن يجري بسكون ، ودمعتان تموتان في طرفي عينيه كل لحظة. إنه ينبوع من الحزن المتدفق بالتفجع من أعماق أعماق النفس.
کُــلُّ ما فیه حزین، عیناه ، شفتاه، محیاه ، کل ما فیه كئيب.
ویداه ! لماذا تقطران حزناً ؟! هل یا تُری تحزن الیدان؟!.
من الدمعتین النائمتین في طرفي عینیه ،عرفت أنه دائم البکاء،ومن شفتیه المطبقتین دائما ، عرفت أنَّ الإبتسامة قد فارقتهما منذ حین، وانه لم یتکلم منذ زمان، ومن الألم الجاثم علی محیاه عرفت الحزن الکامن في روحه. لکنني لم أعرف سبب الحزن النازف من یدیه!
یا تری هل تحزن الیدان؟ هذا هوا السوال الذي حیرني طیلة الأشهرالخمسة التي مضت في السجن وأنا أبحث عن كشف ذلک السرِّالغامض.
ورغم أنَّ السجناء لم یترکوا صغیرة ولا کبیرة إلا ویصرون علی کشفها، لکنَّ الجدَّ والوقارالظاهرين عليه لم يتركا مجالاً لأحد منهم أن یضایقه بسؤال حتی عن اسمه، فما بالک عن سبب وجوده في سجن کارون الاحواز.
ولم يستطع كل ذلك الحزن الثقيل أن يغيِّب ملامحه العربیة الاحوازية.
ولكن ،لماذا لم يزره أحد طيلة هذه الفترة ؟ وقد عرف عن الاحوازيين تواصلُهم وصلة الأرحام والمؤازرة لدى الشدائد فيما بينهم! وهذا ما زاد اللغزَإبهاما وتعقیداً.
ولولم يناده الحارس ذات یوم لیأخذه الی المحکمة ، باسمه «صابر» لما عرفنا حتی اسمه. و ما الفائدة من معرفة اسمه إنْ کان لایتکلم. فالفتی کله لغز.أو أنَّ ما فیه جعل منه لغزا.
***
عاد صابرمن المحکمة مساء ، فلمحت علیه قلیلاً من التغیير،أوأنني تصورت ذلك.
تصورت أن شفتیه قد انفرجتا قلیلاً لکنَّ طرفي عینیه مازالا بلیلین. ما الذي جرى لصابرفي المحکمة، هل خففوا عنه الحکم؟
ورحت أرقبه سراً بطْرفٍ خفيٍّ. وفي إحدی المرات حانت مني طرفة فلحمته یرقبني هو الآخر. فأحسست بصیصاً من الأمل في التقرّب إلیه.
ولکن کیف یکون ذلک؟، وعدت اقول لنفسي، مهلاًً مهلاًً، فأمثال صابرمعادلات صعبة، لا یمکن التعامل معها بسهولة.
ثم سألت نفسي: هل یرقب أحدا غیري؟ فإذا هو لا یلتفت لسواي.
ثم قلت: ما سبب اهتمامه بي دون غیري؟
کنت قد آنست في نظرته حناناً خفیـّاً نحوي، أوهكذا حسبت.
ومرت أیام وکانت نظراتنا قد تبادلت أكثر من مرة ،مما جعلني أطمع في القرب منه.
واعتبرت تلك النظرات ضوءاً أخضر للعبورمن جدارالصمت المطبق علی ذلک الفتی الحزین. فاقتربت منه، دون أن أکلمه ، وقدّمت له تفاحة ،فارتعشت یده الحزینة وهي نائمةعلی رکتبه لکنها لم ترتفع عنها؛ فرددتُ التفاحة إلی مکانها، وحاولت أن أکلمه،و لکن ما معنی أن تکلم جداراً! فترکته وانسبحت یائساً.
***
وذات یوم من أیام الزیارة، ذهبتُ مسرعاً لأجد مکاناً للإلتصاق بالسیاج المانع بين الزواروالسجناء، وما إن وصلت قریبا من السیاج حتی رأیت زوجتي تلطم وجهها وتخمش خدها وتضرب نفسها بالأرض و تصحیح:
لا… لا…. زوجي لم ینتحر…أنتم قتلتموه …أنتم قتلتموه وتدّعون أنه انتحر…لا… لا… انتم قتـَلة، انتم مجرمون، انتم قتله، لا … زوجي لم ینتحر….
وهکذا کانت تصرخ و تضرب نفسها إلی أن سقطت علی الأرض مغشیاً علیها.
ولولم أسمعها وأراها، لما صدقت ذلک المشهد المروع، ولقلت إنه کابوس. کنت أکاد أصعق من شدة الدهشة، فرحت أصرخ: إقبال … إقبال… هذا أنا… هذا أنا … أنا حيٌّ لم أنتحر… لم أقتل…إقبال…إقبال….
ثم رأیت ولدي خالداً و قد عمد إلی بوابة صغیرة في زاویة السیاج محاولاًً الوصول إليَّ،لکنّ الحارس کان قد عرض رجلیه وهوجالس علی کرسیه فسد الطریق عليه، و راح خالد یضرب رجلي الحارس، والحارس یدفعه بقسوة، ثم حاول أن یمرق من تحت رجلیه، فانزل إحديهما ودفعه بالأخرى فسقط على الأرض فزادني ذلک المشهد الحزین غضباً جنونياً، فصرخت: أُترکه یدخل… اترکه یدخل…يا جلاد…
کنت أصرخ وأکیل لهم الشتائم، وفجأة أحسست یداًً تربت علی کتفي ثم صوتاً یقول: ها.. ها… عباس، ما بالک، خیرا ان شاء الله…
فالتفت فرأیته العریف فیصل …. فقلت:
هولاء القتلة، قالوا لزوجتي: زوجک انتحرومات، وتلک هي واقعة علی الأرض مغمیً علیها.
دُهش فیصل و راح یصرخ:
ــ أیها المجانین، أیها الخبثاء ماذا قلتم لهذه المسکینه؟!
و لم یردعلیه أحد بشيء ، وکأنَّ شیئاً لم یحدث.
عمد فیصل الی البوابة واحتضن خالداً فرفعه عن الارض، ثم ذهب عند أم خالد، فوقف عند رأسها، وکان یعرفها إذ أنه من أقاربنا بالسبب.، فأ مر بماء واستعان بإحدى الزائرات فرشَّت منه علی وجهها، فأقاقت صارخة:
زوجي… قتلوا زوجي …، إبني … ولدي…
فقال لها فیصل: هذا هو عباس، انظري الیه وراء السياج يناديك، وهذا ابنك، اهدإي.
وأنا أصرخ بأعلى صوتي لکنَّ صوتي کان یضيع في الزحام ،فأشارفیصل إليّ أن أخرج من السیاج ،ثم أشارللحارس أن یفتح لي الطریق.
فالتحقت بزوجتي وولدي، فقال فیصل:
ــ تفضلوا في غرفة الإنتظار .
فانتقلنا إلیها وقال فیصل وهو یحاول أن یترکنا نتحدث علی مهلنا:
ــ كم یکفیکم من الوقت ، نصف ساعة او ساعة؟
ــ نصف ساعة یکفي ،لا نرید أن نسبب لک مشکلة مع هولاء.
وراحت زوجتي تشرح لي الموقف باکیة.
ولکي أُهدِّيء من روعها، قلت لها:
ــ أرأیت خالداً، کم هو شجاع کان یتصارع مع الحارس لیصل إليَّ وراء السياج ؟ فقالت:
ــ وکیف لي أن أراه وأنا بتلک الحال؟ فقلت لها:
ــ حبیبتي، أنت شريكة عمري، ورفيقة دربي ، وکنت ولا تزالین معي في السراء والضراء، وما أقلَّ السراء َ في حياتنا، وهذه لیست المرة الأولی التي نواجه فیها مثل هذا الظلم، وأنت تذوقین المرار. هذا قدرنا حتی یفرج الله عنا ویخلصنا من أغلال نظام الشاهات هولاء الظلمة الجناة، اصبري یا حبیبتي فإن الله مع الصابرین.
لها تابع=
تنويه هام:القصة منقولة من صفحة الكاتب على الفيسبوك وتم استخدام تسمية الاحواز بدل الاهواز من قبل موقع كارون.
تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.