في رسالة بعثها الكاتب القبيسي اللبناني إلى قائد حزب الله: ‘أحسبكَ تعرف من إسمي أيها السيد، أنني أنتمي بالهوية المسجلة إلى الطائفة الشيعية لكنني أعلو على ماهو شيعي وسني.
فتن أساسها التدين
هذا الخلاف بين مَن يسمّون أنفسهم “شيعة”، ومن يسمّون أنفسهم “سنة” أساسه في التدين، لذلك يقول القرآن “ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق أو المغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر”. لم يقل القرآن من تدين بالله بل قال من آمن بالله، وإذ يقول القرآن في مكان آخر إن الدين عند الله الإسلام، فهذا لا يعني الدين الإسلامي المعروف بأركانه الخمسة، بل يعني التسليم لـ”خالق” هو في القرآن “رب العالمين وأرحم الراحمين”.
أركان الإسلام ليست خمسة، ولا يذكر القرآن عددها، وكل ما في القرآن من أركان الإسلام، أما الأركان الخمسة المعروفة، فهي من وضع فقهاء فسّروا الكتاب على هواهم لخدمة الحاكم. لا يكفي أن يعتمد المسلم الأركان الخمسة (الشهادة والحج والصلاة والصوم والزكاة) ليكون مسلماً، الإسلام قيم أوسع من ذلك بكثير، والدليل أن هناك من يعتمد هذه “الأركان الخمسة” ويقول عن نفسه إنه مسلم، ثم نراه يقتل الأبرياء! أركان الإسلام إذاً كثيرة، أهمها الدفع بالتي هي أحسن، والمودة والرحمة، والرفق باليتيم والسائل والمحروم، وهذه أهم من أركان، مثل الحج والصلاة والصوم والزكاة، لأن “الله” يريد رحمة ولا يريد ذبيحة!
هكذا أفهم الإسلام يا سيد حسن، ولا أريد أن أفهمه تمذهباً على نهج هذا الإمام أو ذاك، أو على نهج هذا الخليفة أو ذاك. أفهمه قرآناً يقبل الناس جميعاً، ولا يرفض منهم إلا اللصوص والمجرمين والسفاحين والقتلة، وهؤلاء هم الكفرة في نظر كل مؤمن، بغض النظر عن لونه وجنسيته ومعتقده. أريد أن أفهم القرآن كتاباً يقبل الناس جميعاً، بمن فيهم الملحدون واللاأدريون، لأن هؤلاء قد يكونون بشراً مسالمين. هذه الطريق الوحيدة في رأيي لفهم الإسلام، وكل فهم أو تأويل آخر للآيات ضرب من الكفر، وجنون يبقي الحروب على أرضنا دائرة، لا تجلب غير الدم والندم والفقر والمرض والجهل وتعدد الولاءات، وتبقي الصراع بيننا في الدين، ومع كل دين، مشتعلاً أبداً، وإلى أبد الآبدين!
مَن منا، ومن الذين كتبوا تاريخنا، عاصر الرسول وقال إنه أوصى بالبيعة لعلي بن أبي طالب؟ مَن منا، ومن الذين كتبوا السيرة النبوية، حضر اجتماع السقيفة ورأى المسلمين يبايعون أبا بكر الصدّيق خليفة، بينما علي بن أبي طالب مشغول بغسل جثمان الرسول؟! مَن منا، ومَن كتبوا تاريخنا، شهد موقعة الجمل بين علي بن أبي طالب وعائشة بنت أبي بكر الصديق، وماذا قيل فيها وما جرى؟ وقد تكون هذه الواقعة من نسج الخيال، دوّنها كتبة مؤرخون لبث الفرقة في قلوب الناس!
هذه عيّنات من مئات القصص التي نقلها إلينا مؤرخو السيرة، ودوّنوها في صحائف لا نملك صحيفة أصلية واحدة منها، ودوّنت بعد نحو مئتي سنة من وفاة الرسول، وهو ما يوازي اليوم ألف عام! سير لعبت فيها أهواء المنافع والمصالح، حتى أن ابن هشام نفسه، واضع أول كتاب في السيرة النبوية، اعترف بأنه نقلها عن سيرة ابن إسحق بعدما هذّبها وشذّبها، وسيرة هذا الأخير مفقودة، ولا نعرف عنها شيئاً!
الدولة ليست ولاية الفقيه
إذا سألتني يا سيد حسن عن”دولة الإيمان” المرتجاة، فسأقول لك إنها ليست “ولاية الفقيه” حتماً، وليست “دولة العراق والشام” حتماً، وليست “دولة القاعدة” ولا “دولة الأخوان المسلمين” حتماً، ولا إمارات “طالبان” و”جبهة النصرة”، وكانتونات العلويين والدروز والموارنة. هذه كلها لون واحد، عقل واحد ونهج واحد، “خصوصيات” أحادية، لا مكان فيها لروح آخر، وعقل آخر، وفكر آخر.
الدولة المدنية هي دولة الإيمان الوحيدة، وهذه وجدت في الغرب بعد صراع مر مزمن بين الغريزة والعقل، بين الجهل والعلم، وبين التدين والإيمان! إنها الدولة الوحيدة التي تحفظ حقوق الناس، ويتساوى فيها المواطنون أمام القانون، هي “دولة الله” الوحيدة على الأرض، وما عداها كفر وعنصرية وحروب.
ألم يقل الشيخ الإمام محمد عبده “ذهبت إلى الغرب فرأيت إسلاماً ولم أر مسلمين، ثم عدت إلى بلاد المسلمين فرأيت مسلمين ولم أر إسلاماً”!؟
هذا الإسلام الذي وجده “رائد الإصلاح” في الغرب، لم يكن إلا في كنف الدولة المدنية. محمد عبده هو الذي قال: “الإسلام مجموعة من القواعد العامة يقتدي بها البشر في المجتمع والحكم، لكنه، أي الإسلام، لم يأت بقوانين تفصيلية، وعلى البشر أن يستعملوا عقولهم في وضع التفاصيل”. محمد عبده هذا هو الذي قال أيضاً إن الإسلام محجوب بالمسلمين، ونادى بتعليم المرأة، وقال إن العدل لها لا يمكن أن يتحقق في تعدد الزوجات، وعارض الحجاب والنقاب، وقال إن لا نص في الشرع يوجبهما، وإنهما “عادتان ناتجتان من الاختلاط بأمم أخرى”. محمد عبده هو الذي وقف ضد التكفيريين والمتزمتين، وقال قولته الشهيرة “إنما هو دين أردت إصلاحه وأحاذر أن تقضي عليه العمائم”!
سيقول المتدين المتزمت إن الدول المدنية من صنع البشر، ويدعو إلى دولة دينية، لأن القرآن يقول: “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”. هذه الدولة الدينية التي يريدها المتدين المتزمت، لن تكون “دولة الإيمان”، بأي شكل من الأشكال، بل دولة الدين الواحد، والمذهب الواحد، وستقوم على الغلبة والقهر والتعسف، وتعتبر من ليس من دينها ومذهبها، مواطناً من درجة ثانية وثالثة.
أكتب هذه الرسالة وأنا في بريطانيا، واقول إنه في السنوات الطويلة التي عشتها في هذا البلد، لم أسمع من قال عن نفسه إنه كاثوليكي أو بروتستانتي. هنا توجد كنائس للمسيحيين من جميع المذاهب، وكنس لليهود، ومساجد للمسلمين وحسينيات للشيعة، وخلوات للدروز، وأديرة ومعابد للبوذيين، وصنوف متعددة من أمكنة العبادة لكل البشر. الكل يمارس حقه في العبادة، لأن بريطانيا دولة مدنية علمانية متحررة من الغرائز الدينية، ولو كانت عصبية كاثوليكية أو بروتستانية، لما ضمت هذه “الشعوب والقبائل”، لذلك هي أقرب إلى القرآن الذي تقول آياته “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”!
بعد خروج الإسلام من الأندلس، لم تعد إسبانيا “الكاثوليكية”، تسمح ببناء المساجد. بقي الوضع على هذا النحو مئات السنين، ولم يتغيّر إلا يوم أصبحت إسبانيا دولة مدنية متسامحة، عندئذ سمحت ببناء المساجد، وفي الشرق دول “إسلامية”، لا تسمح ببناء الكنائس، وهناك دول مدنية علمانية تسمح ببناء مساجد ودور عبادة لمن يشاء، فأي دولة هي الأقرب إلى “الله” والإنسان إذاً؟! هل التي تحجب “الله” وتفتح هوة ضيقة لرؤيته، أم تلك التي تشرّع طرق الإيمان كلها لرؤية “الله”؟!
القرآن يقول في سورة البقرة: “ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله”، ألا يعني هذا أن علينا أن نفتح نوافد العقول والقلوب، وأشرعة الزمان والمكان لنرى “الله” أنى اتجهنا، بدلاً من أن نراه من فوهة ضيقة؟!
صدِّقني يا سيد حسن، الدولة المدنية، هي الدولة الوحيدة التي تحفظ هذه “الخصوصية” الغالية عليك، وتحفظ “خصوصيات” الآخرين، وتمنع الحراب والخراب. فيها يصبح لبنان وطن الإنسان والإيمان، ومنارة حضارية في هذا الشرق، ويصبح عن حقّ بلد العائلات الروحية، لا بلد الطوائف والتزمت الديني البغيض. يصبح دولة قوية منيعة، لا تقوى أبواب الجحيم عليها، ولا يقدر أحد على خرق جدرانها، وأمامها تصغر إسرائيل في عين العالم، وتتغير كما تريدها أنت أن تتغير، ولا تكون أرضاً لليهود وحدهم.
المصدر :ميدل ايست اونلاين
تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.