إذا كان الغموض هو طابع الكثير من السياسات والمواقف الإقليمية والدولية سواء في سوريا أو في العراق، وفي سوريا على وجه الخصوص، فإن هناك حقيقتين بارزتين تطفوان على سطح الأحداث أولهما ضعف العصبية العربية التي سطت عليها أمتان مجاورتان للعرب هما الفرس والترك فعطّلتا بذلك نهوض العرب وتحقيق مشروعهم القومي: فالفرس استولوا على وجدان الشيعة العرب وألحقوهم بهم حتى لم يعد عند هؤلاء ولاء للأمة العربية التي يفترض أنها وحدها أمتهم. أما الترك فقد وجدوا أن من الطبيعي أن يهتموا بالسنّة العرب لأسباب كثيرة تاريخية ودينية ومصلحية، وقد أقاموا في السنوات الأخيرة علاقات وثيقة مع سنّة بلدين عربيين مجاورين لهم هما سوريا والعراق. قد يكون ما فعله الأتراك هو رد فعل على استيلاء الفرس على العقل الشيعي العربي وشعورهم بأن هذا الاستيلاء يشكل اعتداءً مباشرًا أو غير مباشر على مصالحهم في بلدين مجاورين كانا قبل أقل من مئة سنة جزءًا من السلطنة العثمانية، ولمئات السنين. ولكن أيًّا كان سبب اهتمام الأتراك بالمشرق العربي بعد انكفاء مئة سنة عنه وانغماسهم في الغرب واقتباسهم أنماط حياته، فإن العصبية العربية اليوم في أدنى درجات فاعليتها بسبب توزع العرب، سنّة وشيعة، على أمتين مجاورتين نضعهما عادة في خانة “الأمم المغلوبة” أي التي غلبها العرب زمن الفتوح وحكموها لمئات السنين، فإذا بهم يستيقظون اليوم ليجدوا أن المغلوب صار غالبًا، وأن الغالب القديم مسلوب الإرادة والعصبية وفاقد لأي قضية وطنية أو قومية، إن لم يكن مجرد أداة بيد الغالب الجديد.
ثاني هاتين الحقيقتين هو الصراع المرير الذي خرج إلى العلن مؤخرًا بين الفرس والترك بخصوص ما جرى ويجري في عين العرب وسياسات تركيا فيها، ومطالبها، وبخاصةٍ إقامة المنطقة العازلة على حدودها مع سوريا ومطلبها الآخر الذي يتمثل بوجوب إزاحة بشار الأسد عن السلطة.
بدأ الصراع الفارسي/ التركي صامتًا أو مستترًا في العراق ولكنه تحول إلى صراع علني في سوريا. من مظاهر علنيته تصريحات لمسؤولين بارزين في النظام الإيراني تحذر تركيا من مغبة مواقفها وسياساتها ومطالبها في سوريا وتنذرها بأن النار يمكن أن تنتقل إلى أراضيها وهذه لهجة مستجدة لم تكن مألوفة بينهما لأن كلًا منهما كان يدّعي صداقة الآخر.. ويحرص على استمرار الودّ معه. الآن تراقب طهران أنقرة بعين الريبة والغضب وتنتقدها بقسوة فيما ينتشر مئات من الخبراء الروس والإيرانيين في حلب ومناطق سورية حدودية أخرى مع تركيا، تحسبًا لأي تدخل تركي، بل إن بعض المعلومات تذهب إلى حدّ تأكيد إنذار وجهته طهران إلى أنقرة بالامتناع عن اختراق الحدود السورية، أو مواجهة “عواقب” تدّخل عسكري مضاد. وقبل أيام وجّه رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني تحذيرًا إلى تركيا بخصوص “تحركاتها الخطرة” في المنطقة.
بالطبع من حق أي دولة أن تدافع عن مصالحها، وفي العلاقات بين الدول لا يوجد ما يُسمّى “بالجمعيات الخيرية” بل يوجد ما يدُعى “بالمصالح” وما مارسته تركيا في عين العرب وما لم تمارسه يقع في إطار هذه المصالح، وما تطالب بتحقيقه، ومنه المنطقة العازلة وعزل الحاكم السوري، يلبي هذه المصالح. ولكن مصالحها هذه تصطدم مع مصالح الإيرانيين في سوريا والمنطقة اصطدامًا مباشرًا كما تصطدم مع سياسة قوى إقليمية ودولية نافذة تقف، مباشرةً أو مواربة، في نفس خندق الإيراني. فالإسرائيليون (والأمريكيون ضمنًا) والروس لا يؤيدون مطلب تنحية الأسد ولكل أسبابه في ذلك. فالإيرانيون يعتبرون وجود الأسد في السلطة، وبالتالي هيمنتهم على سوريا، كسبًا إستراتيجيًا لبلدهم لم يحققوه منذ زمن قورش عندما وصل إلى سوريا وضمها إلى مملكته بعض الوقت. وسوريا مهمة لإيران لأنها مدخلها إلى بيروت وجنوب لبنان وكلها أوراق رابحة بيد اللاعب الإيراني. وروسيا تنظر إلى سوريا كموقع إستراتيجي لها ولأسطولها في البحر المتوسط. وإسرائيل وجدت في سوريا الأسد الأب والأسد الابن كنزًا فاق كامب ديفيد مع مصر لأنهما تولّيا حماية حدودها الشرقية حوالي نصف قرن وتخلّيا، عمليًا، عن منطقة الجولان الفائقة الأهمية لإسرائيل عسكريًا ومائيًا.
يحذّر الإيرانيون رجب طيب أردوغان، زعيم تركيا الأوحد إن لم يكن سلطانها الجديد، من مغبة سياساته السورية ومطالبه من أمريكا والغرب لأنهم يعلمون ماذا يريد بالضبط. إنه يريد أن تتحرر سوريا من الأسد ومن «الأسود» الأخرى التي تقف وراءه تحميه وتسانده وفي طليعتها إيران، ليحل الأسد التركي – بصراحة – محلّها. أولًا الفراغ يُغري بملئه، قاعدة معتبرة في علوم كثيرة، والأتراك يعرفون جيدًا هذه القاعدة ويرون أنهم الأجدر من الجميع بملء الفراغ السوري، والأجدر أولًا من الإيرانيين المعتدين المغتصبين للسلطة في دمشق وفي لبنان أيضًا عبر وكيلهم حزب الله وسائر السياسيين اللبنانيين المتحالفين معه. دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية وسائر مدن بلاد الشام ظلت تابعة للسلطنة العثمانية أكثر من ٥٠٠ سنة، وهي تقع على مرمى حجر من قونية وغازي عينتاب وانطاكية وسائر مدن لواء الإسكندرون التابعة لها الآن. فبأي حق تهيمن إيران على سوريا البلد المسلم الذي يبلغ عدد السنّة فيه ٧٥ بالمائة من سكانه، في حين أن الشيعة (أو العلويين) فيه لا تتجاوز نسبتهم الـ ١٠ بالمائة من سكانه؟.
إن سوريا غير العراق لهذه الجهة، فإذا كانت هيمنة الإيرانيين على مقدراته مبنية على نسبة مدّعاة لعدد الشيعة فيه، فإن سوريا تختلف عن العراق لهذه الجهة، كما رأينا. هذا مع الإشارة إلى أن أجواء العراق لم تعد صافية لنفوذ الإيرانيين فيه بدليل أن حكومة العبادي الحالية ليست حكومة إيرانية أو شيعية كما كانت حكومة السيئ الذكر نوري المالكي.
ترى تركيا، سرًا أو علنًا، أن إبعاد سوريا عن الفلك الإيراني وعودتها إلى ذاتها، من شأنه أن يحلّ مشاكل سوريا أولًا وأن يخفف من مختلف الضغوط على تركيا أيضًا عندما يفقد العلويون السلطة في سوريا لا يعود العلويون الأتراك، وهم يُعدُّون بالملايين، عنصر قلق وإقلاق لتركيا كما هو الوضع اليوم. ولا شك أن بسط تركيا لهيمنتها، أو لنفوذها، على سوريا – إن حصل ذلك – من شأنه أن يهدّئ العنصر الكردي ويساعد في لجم طموحاته. والواقع أن وجهة النظر التركية هذه لها أنصار كثيرون يرون في التوسع الإمبراطوري لإيران في المنطقة، وبخاصةٍ في سوريا ولبنان، وكذلك في اليمن، نوعًا من الاغتصاب أو الورم الذي يتوجب استئصاله، وليس غير السلطان العثماني الجديد بقادر على القيام بهذه العملية البالغة الصعوبة والتعقيد. فليس سهلًا اقتلاع حاكم مثل بشار الأسد هدم ودمّر كل بلده من أجل أن يبقى في السلطة ولم يتمكن شعبه ولا أحد في العالم من أن يهزّ كرسيه الذي بناه هو وأبوه على جماجم الفقراء والمعذبين. وقد بقي حتى الآن لأن أشرار العالم وراءه، ولأن آخر ما يهمّ هؤلاء الأشرار فقراء سوريا والمعذبون فيها.
ثمة إذن صراع على مستقبل سوريا بين قوتين إقليميتين كبيرتين هما الإيرانيون والأتراك ولكل من هاتين القوتين أنصار في المنطقة وفي العالم. والجميع يحبس أنفاسه بانتظار الفصول الآتية القريبة لأن ما جرى حتى الآن، سواء في عين العرب أو في أي عين أخرى، ليس سوى بداية لا أكثر. يجد أردوغان أن من التعسف لإيران أن تُطبق على تركيا من الجنوب عبر حدود تمتدّ لـ٨٠٠ كيلو متر إلى جانب حدودها الغربية معها، في حين أن من الطبيعي أن تكون تركيا في المسجد الأموي في دمشق، وفي دمشق الأموية كلها. إنها عبرة التاريخ، وقد آن للظلم الذي حلّ بسوريا وأهلها أن يمضي إلى الأبد.
تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.