
كلّ جيل من الأجيال البشرية مهما كانت ملّته، دائماً يريد أن يترك تاريخاً ناصعاً وفق مقاربته الأيديولوجية يُروى لأجياله اللاحقة وتستفيد منه في صناعة كيانها، ولذلك تجد أبناء كل جيل يعملون ما في وسعهم كي يورّثوا ما يتشرّف به الذين يأتون من بعدهم.
ترى ماذا ترك جيلنا حتى يرويه التاريخ عنّا لأحفادنا وأحفاد كل المسلمين؟
علينا أن ننظر إلى واقعنا وبعين الصدق والمصداقية بعيداً عن التزييف والتزوير ومن دون عنتريات وعنجهيات فارغة، لأنه سوف تأتي أجيال أخرى ستعرف الحقيقة كما هي حتماً والتاريخ لا يحسن الكذب طول الوقت ولا يرحم أحداً وطالما فضح الكذّابين حتى من المؤرخين أنفسهم عبر عصور خلت.
ولدت منذ أكثر من أربعين عاماً، وعايشت مع أبناء جيلي حرباً أهلية في الجزائر مات فيها أكثر من ربع مليون جزائري لم ينالوا حقهم من العدالة إلى يومنا هذا. وكنّا شهوداً على الوحشية من النظام والوحشية المضادة من جماعات معارضة بالسلاح، كما رأينا أن عملاء الجيش الفرنسي إبان حرب التحرير هم من صاروا يحكمون البلاد والعباد وهم من تسبّبوا في قتل الجزائريين وتدمير وطنهم ورهنه تحت أقدام أسيادهم في باريس.
لقد شاهدنا أرذل الناس هم من يحكمون أخيار الناس، ليس في الجزائر فقط بل في أغلب العالم العربي حيث أن الفقراء لا يجدون قوت يومهم في بلادهم الغنيّة وثرواتهم يبذّرها الحكام على غرائزهم ومصالحهم ويتسلّون بها في كبرى عواصم العالم، حتى صار هذا يشتري “جحشة” بالملايين وآخر يبتاع سيارة مرصّعة بالياقوت وذاك يريد أن يتميّز بهاتف محمول صنع خصيصاً له من الذهب الخالص.
رأينا أبناء وبنات المسؤولين في أرقى الأحياء الأوروبية يتسوّقون بالملايين من أموال الخزينة العامة، في حين أبناء الفقراء لا يجدون ما يشترون به قلم رصاص حتى يكملوا مشوارهم الدراسي المتميز.
رأينا أبناء الحكام وبطانتهم يبتعثون للخارج كي يكملوا دراستهم الجامعية على حساب أموال الشعب رغم أن حصولهم على الشهادات كان بالغش أما المتفوق الحقيقي فلا حظّ له حتى في جامعات بلده لأن ذنبه اليتيم أنه من أبناء عامة الشعب.
رأينا الراقصة والعاهرة يفرّش لها السجّاد الأحمر بعواصم العالم العربي، وتفتح لها وسائل الإعلام أبوابها ويتباهون بشهرتها ويتنافس المسؤولون على خدمتها والتقرّب منها بثروات طائلة، أما الشريفة العفيفة التي تربّي أطفالها في كوخها أو بيتها القصديري وتخرّج لنا النوابغ فلا حق لها حتى في مساعدة رمزية كي تكمل مسارها النبيل.
رأينا مطربي الحانات وعلب الليل يستقبلهم الزعماء ويوشّحونهم بأوسمة من أعلى الدرجات، أما العلماء فيموتون في السجون ومن ينجو منهم فيحاصر حتى في لقمة عيشه ولا يجد من سبيل سوى المنفى إن أفلت بجلده من كلاب صيد المخافر.
ترى هل هذا سيشرّفنا أمام الأجيال القادمة من أحفادنا وأحفاد غيرنا من أبناء العالم الإسلامي؟
ليس ما ذكرنا فقط فهو غيض من فيض، بل عايشنا ثورة الشعب السوري وهو يذبح على المباشر، ولم نقدّم له غير الحسرة على صفحات التواصل الاجتماعي، لأننا لا نملك شيئاً من القدرة، في حين أصحاب القرار يتلذّذون بدماء الأطفال الذين قتلوا في مجازر بالسكين والقصف بالبراميل المتفجّرة وصواريخ سكود وأسلحة دمار شامل. بل إن جامعة الأنظمة العربية تحركت ببعثة من مراقبين رقصوا على جراح الضحايا ثم عادوا لبيوتهم وجيوبهم منتفخة بأموال وهدايا، وبعدها ظلت هذه “الجامعة” تتاجر بمآسي السوريين حد المازوخية الممجوجة.
أربع سنوات والشعب السوري يذبح ولم يتدخّلوا إلا بكلام وبيانات عابرة ومؤتمرات للتصوير والتدرّب على فنون الخطابة، واليوم الذي حلّق فيه طيران “الأصدقاء” في سماء الشام، قصفوا المناطق التي لا يتواجد فيها شبّيحة بشار الأسد ولا مليشيات إيران التي انتهكت الأعراض وشربت من دماء الأبرياء بمنتهى الطائفية.
عايشنا كجيل مأساة سوريا، ثم عايشنا مأساة مصر التي ثارت على طاغية مستبد وانتخب الشعب من يريد أن يحكمه غير أن العالم الذي لا يريد أن يرى الشعوب تقرّر مصيرها غدر بهذا الخيار ودعّم جنرالاً دموياً يحلم بمنصب الرئيس منذ صباه، فانقلب على حاكم شرعي واقترف المجازر في حق مواطنين مصريين أبرياء في رابعة العدوية والنهضة غيرها.
عايشنا كجيل متعب ومثقل بجراح أمته، أن إيران التي كان شيعتها العرب يمارسون التقية ويخفون تشيّعهم حتى على ذويهم من الجبن صاروا يذبحون غيرهم من أهل السنّة في مجازر قذرة تتناقلها الفضائيات. إيران التي تسبح فوق نهر من البنزين صارت تتمدّد وتسقط العواصم العربية واحدة تلو الأخرى، ولو اقترب منها عود ثقاب واحد لمسحت من الخريطة، ولكن للأسف من يدّعي مواجهتها هو من يحميها ولو على حساب استقرار وطنه لأن المخرج الأمريكي أراد ذلك.
كنّا شهوداً على سقوط بيروت بأيادي مليشيات ما يسمى “حزب الله” الذي هو الذراع العسكري للولي الفقيه. وسقطت أمام أعيننا بغداد لؤلؤة التاريخ الإسلامي، فاحتلّتها إيران التي كانت لا تتجرأ على الاقتراب من حدودها، وصارت تعيث فيها قتلاً وفساداً وتدميراً وانتقاماً من حرب الثماني سنوات وعنصرية للعرق الفارسي.
للأسف شاهدنا على المباشر دبابات أمريكا وهي تدخل عاصمة الرشيد وعلى متنها ملالي إيران وبدعم أنظمة عربية سنّية تزعم أنها تحارب المشروع الصفوي. كنا موجودين عندما تآمر حكام العرب على عربي من طينتهم يدعى صدام حسين لأنه يختلف معهم في لون الطغيان، وبدل أن يفتحوا قنوات للحوار ولملمة الخلافات بما يحافظ على قلعة العراق الحصينة التي كانت غصّة في حلق الخميني، إلا أنهم قرّروا بمهماز أمريكي أن يدمّروا بلاد الرافدين قبل حتى أن يغزو صدام الشقيقة الكويت ظلماً وعدواناً. وهكذا لم نعد نسمع أن صواريخ العراق تدكّ إيران بل إن العراق مجرد محافظة إيرانية فقط يركع حكامها تحت أقدام خامنئي، وثرواتها الطائلة تحوّل إلى طهران بدل أن يستفيد منها العراقيون الذين منذ عام 1990 لم يهنأ لهم بال، وصاروا يتنقلون من مستنقع إلى آخر، وذنبهم أنهم واجهوا الخمينية ومنعوها من التمدّد.
ماذا سيروي التاريخ عنّا؟ (2)
في مسيرة خيبات يعيشها جيلنا، شهدنا أيضاً سقوط صنعاء تحت حوافر الحوثيين الموالين للمشروع الإيراني. للأسف العرب يتفرّجون، ومن لم يلذ بالصمت فهو يفرّك أصابعه والكلّ ينتظرون دورهم في طابور المدّ الصفوي. بل إن جهات عربية للأسف الشديد تواطأت في سقوط العاصمة اليمنية بقبضة ما يسمى “أنصار الله” وهي مليشيا متمرّدة تتحرك بإيعاز من طهران، وتواجه جيشاً نظامياً موحداً، بل الأدهى من ذلك أن هذه المليشيا لم تنجح على مدار سنوات في السيطرة على دماج، وفجأة تتمكن من إسقاط العاصمة صنعاء في عملية استعراضية غريبة، ويفتش مسلحوها عناصر الجيش في الشوارع على مرأى الناس.
ليس غريباً أبداً ما نرى ونسمع وما سنلمس مستقبلاً، فقد سمعنا مسؤولين من العرب يتودّدون إلى علي خامنئي ويصفونه بأنه مرشد العالم الإسلامي كله، ولم تبق إلا بيعة رسمية له كـ”وليّ فقيه” قد نشهدها لاحقاً إن بقي حالنا على هذا الحال.
قبل بغداد وصنعاء، نجد دولة الأحواز العربية محتلّة منذ أكثر من ثمانين عاماً، ولم يتحرّك العرب ولا ساندوا الأحوازيين وهم يتعرّضون للإعدامات ومخطّطات عنصرية لمحو هويتهم العربية والإسلامية. ولا يزال الأحوازيون يئنّون من طائفية محتلّ إيراني لا يرحم أحداً سواء كان سنّياً أو شيعياً ما دام الأمر يتعلق بمصالحه القومية الفارسية التوسعية في المنطقة على حساب أمة عربية تغطّ في نوم عميق بسبب تخدير رسمي محلي ومستورد.
أما دمشق عاصمة الأمويين ومنارة الأمة الإسلامية عبر التاريخ، فهي محتلّة منذ نصف قرن تقريباً من طرف نظام نصيري الديانة وصهيوني الغاية وإيراني الهوى وعلماني الشعارات ودموي في عقليته الأمنية، ولما ثار الشعب السوري لتحرير أرضه وعرضه، ذبح على المباشر وعلى مدار ما يقارب أربع سنوات لا يزال يتعرّض لما يندى له الجبين من إبادة باركها حكام العالم لأسباب صفيونية بحتة، وتناقلتها مختلف وسائل الإعلام عبر الأقمار الصناعية.
في الوقت الذي نجد فيه حكام إيران يذبحون المسلمين والعرب ويشعلون الحروب الطائفية النجسة التي تدمّر الأوطان وتبيد الإنسان، ما يزال هؤلاء الحكام المعمّمون يُفرّش لهم السجّاد الأحمر في عواصم الوطن العربي وتفتح لهم حتى أبواب الكعبة المشرّفة التي هي حلم مشروعهم الفارسي.
أما فلسطين فهي جرح عميق ينزف منذ أكثر من ستين عاماً، ولا تزال يُتاجر بها في أسواق النخاسة العربية والدولية. إيران التي تدّعي أنها تقاوم لتحرير الأقصى صنعت فيلقاً للقدس لم يقتل سوى العرب والمسلمين في دول يغزوها بدعم صهيوني، حتى حزبها في لبنان منذ حرب تموز 2006 لم يخض سوى صراعات من أجل السلطة في لبنان ثم دخل بحرب قذرة على الشعب السوري في سوريا دفاعاً عن نظام مستبد تحميه “إسرائيل”، ولو كان ممانعاً ومقاوماً لاستغلّ الصهاينة فرصة الثورة وانقضّوا عليه، والمفارقة أن الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك كان حليف “إسرائيل” ولكن تركوه يواجه مصيره حتى صار يحاكم على سرير المرض، أما بشار الأسد الذي يُسوّق إيرانياً على أنه عدوّهم اللدود تجري حمايته منذ ما يقارب الأربع سنوات من ثورة شعبية اقترف خلالها بحق المدنيين كل جرائم الحرب التي يعاقب عليها القانون الدولي كما ذكرنا مراراً وتكراراً.
بل أبعد من ذلك أن نظام الأسد خصّص لفلسطين فرعاً استخباراتياً لم يسلخ غير جلود السوريين وهم أحياء لأجل الحفاظ على أمن “إسرائيل” التي تحتلّ الجولان السوري، وفعل ما يندى له الجبين بحق الفلسطينيين اللاجئين في مخيّم اليرموك وغيره.
وهذا ملك المغرب محمد السادس يترأس لجنة تحمل اسم القدس ومستشاره الشخصي صهيوني بامتياز!
لن يتوقف الأمر على العواصم التي ذكرنا بل ستسقط عواصم أخرى تباعاً تحت حوافر مليشيات إيرانية إن لم تُستدرك المواقف سريعاً، فعين الصفويين على البحرين والكويت والأردن ومصر والجزائر والإمارات وغيرهم، ولقد صارت إيران تبتعد عن مكة المكرمة بعدد العواصم العربية ولحدّ الآن تحتلّ كل من بيروت وصنعاء وبغداد ودمشق والأحواز ولم تبق إلا حوالي عشرين عاصمة وكلما سقطت واحدة إلا واقترب “الفرس” أكثر من الكعبة المشرّفة.
لا يمكن أبداً مهما كانت الشعارات، أن نواجه إيران الصفوية وإسرائيل الصهيونية والعرب يكيدون لبعضهم بعضاً بأقذر ما يمكن أن يتخيله العقل البشري، ولا يمكن أن نحمي أمن أوطاننا والحكام أنفسهم هم أخطر من يهدّد أمننا القومي بتسلطهم وفسادهم واستبدادهم وعبثهم بالمنظومات الفكرية والتربوية والعسكرية والاستخباراتية..
الصحراويون يعيشون كلاجئين في تندوف الجزائرية ويعانون الأمرّين بسبب احتلال مغربي لم يحترم القيم المشتركة في المنطقة المغاربية. السوريون اللاجئون يتعرّضون لأبشع ما يمكن تخيّله من المعاملة الحقيرة في البلاد العربية، في حين نجد غير العرب يستقبلونهم في أفضل الأحوال. الفلسطينيون عانوا الكثير وصلت حدّ مجازر بحقهم في لبنان والأردن وسوريا وملاحقات واغتيالات هنا وهناك. الليبيون تحترق بلادهم بحرب أهلية مدمّرة بدعم من دول الجوار التي تكيد لثورتهم بعدما سقط نظام الديكتاتور معمر القذافي.
الكثيرون من شباب الدول المغاربية يحلمون بالفرار نحو الضفة الأخرى من المتوسط، وبينهم من يغامرون في هجرة سرّية عبر قوارب خشبية فيموتون غرقاً في عمق البحر المتوسط ومن ينج منهم يستقبل في محتشدات مهينة للإنسان والإنسانية في الضفة الأخرى وبدول تحمل شعارات حقوقية فضفاضة.
لم تبق ذرّة من الكرامة للحكام والمحكومين العرب، عندما تصرخ معتقلات في سجون بشار الأسد تطالب بحبوب منع الحمل بسبب الاغتصاب لأنهن يرفضن إنجاب أبناء الحرام. وعار على العالم العربي والإسلامي أن تستنجد شريفات بسجون إيرانية في العراق يطلبن قصفهن حتى يرتحن من التعذيب وانتهاك أعراضهن. وهوان للأمة جمعاء لما تقف فلسطينية وهي تدافع عن المسجد الأقصى وحكام العالم العربي يتفرّجون وبينهم من يقضي إجازته مع عائلته في قصر فاخر يمتلكه في أرقى منتجعات تل أبيب.
يشهد ربّي أن قلبي قد تعب رغم الأمل الذي لا يندثر حتماً، وأنا أتحدّث عن خيباتنا كجيل قدره أن يعيش في هذا الوقت البائس من عمر أمة الإسلام، التي كانت كالشمس تنشر أشعتها الحضارية والإنسانية في كل ربوع الأرض، وطالما افتخرنا نحن بتاريخ أجدادنا وأمجادهم وعدالتهم وأخلاقهم وسموهم الإنساني، وصار حالها الآن بائساً إلى منتهى البؤس من عار أنظمة طاغية ووحشية تنظيمات باغية ثم همجية جيوش غازية تحتلّ الأرض والعرض بمختلف الصور والمشاهد والوسائل.
حقيقة لو يبعث للدنيا أحدنا بعد مئة عام سيخجل أن يكشف عن هويته الحقيقية لأنه سيجد أحفاد الأحفاد يتفادون الاقتراب من دفاتر تاريخنا لأن رائحته عفنة وكريهة جداً، وكل ما فيها ينغّص عليهم صفو حياتهم إن نجحوا طبعاً في تحرير أنفسهم من عارنا وشنارنا، أما إن بقي حالهم على ما تركناه لهم أو أسوأ فإنهم أيضاً سيلعنون أجدادهم الذين ورّثوهم البؤس وما يخجل منه كل من له أدنى قطرة حياء وفي وجهه ذرة من حمرة الخجل.
أضطرُ أن أتوقف عن سرد خيباتنا في كل العالم، لأنني إن لم أفعل قد يتوقف نبض قلبي من شدة الأسى على خير أمة أخرجت للناس، ومهما قلت وما لم أقل سيبقى الأمل قائماً بلا أدنى شكّ في فتيةٍ أراهم يخرجون من بين ركام المآسي لنفض الغبار على وجوهنا المكفهرة من أحزان ضحايانا الذي لا يزالون يصرخون في شتى بقاع الدنيا.
المصدر:الخليج اونلاين
تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.