موقع بروال- زعيم ، كبير ، عميد ، الصفات التي تجعل الكثرة منا تهرول للحاق بركبه ، حتى لو كانت أسماء لأفراد لا دخل لهم في معاني أسمائهم ، فزعيم يحثنا لا شعوريا لحضور مجئه أو مغادرته .
رحل الكنزابرا جبار طاووس الچحيلي في الأمس و اليوم صباحا أخذ الى مثواه الأخير وهو زعیم مندائيالعالم، حملت جنازته و زغاريد النساء تعلن عن ذهابه ، أنها التاسعة صباحا ، و إنه النهر ذاته يودع من لا يعيش إلا بجانب النهر ، نهرنا متعب و كذلك كان الكنزابرا جبار . في المقبرة الجديدة المخصصة للمندائيين و التي تبعد عن المدينة أكثر من نصف ساعة ( هدمت مقبرتهم القديمة و التي يصل عمرها الى أكثر من 100 سنة و كانت تقع بقربهم في شارع زند وسط المدينة ، و مؤكد أن هناك غيرها هدم )، في المقبرة كانت كل الوجوه غريبة ، مفجوعة برحيله لكنها تشعر بغربتها ، لا أحد هنا الى جانبهم ، مقصيين الى أبعد بر ، من كان ينتظر النهار و المساء على وجه النهر ها هو يودع في البر بعيدا . كنت أشعر بتعذيب أكبر مما حدث لي البارحة ، بعذاب داخلي لا أحد يعلم به لأني كنت وحيدا حين حدث ، كنت أشعر بنفس ذاك الشعور .
البارحة و في طريقي العودة من المحمرة و بينما كانت السماء تمطر مرت من جانبي سيارة مسرعة و انعطفت عليّ كادت تأخذني معها في انعطافها ، ثم انقلبت مرة واحدة على جهة اليمين و استقرت في قناة مائية ، كما في المشاهد القصيرة حدث الأمر بسرعة و دون توقف ، مرت في ذهني قبل أن أضغط على مكابح السيارة الكثير من التهم التي توجه لمن ينقل المصابين الى المشفى ، تهم أقلها أنني من سبب الحادث . فتركتهم بسبيل انقلابهم ، ثم خففت السرعة ، ثم زدتها ، ثم .. هناك بشر مصابون …. الى أن طمأنت نفسي على أن كل شئ بخير .
هكذا الحال هنا و منذ وقت طويل ، الشعور بالذنب أمام كل من اجتمع في المقبرة لوداع عزيزهم كان يخيم الصمت المفهوم خطأ عنهم ، شعور بالذنب أكبر من حادث السيارة و أفجع . فلنتصارح كم من الشتائم وجهناها لهم ؟ كم من الأغاني الشعبية التي حملت الإهانات لهم ؟ كم من البعد عن دائرتهم خوفا من كلام الناس ؟ نتلفت حين يمدون أياديهم إلينا ، و الافتاءات التي لا أحد يعلم من أين تخرج ضد طهارتهم ، ضد طهارة أبناء الماء . هناك الكثير لنحاسب انفسنا على ما فعلناه . ثم تمادينا في عزلهم خاصة الآن من قبل منظري السياسة و الثقافة و شد الحبال العالقة ، يُعرف المندائيون جيدا في فترات الانتخابات ، في فترات الخطابات التي تكتب باسمهم ، في زجهم لشرح حالة مستعصية ثم تركهم على حالهم . تمادينا حتى في تهميشهم ثقافيا و قبليا و اجتماعيا و دينيا . بينما كان المندائيون ينتظرون أن نشعرهم أننا بقربهم و نفهم معاناتهم جيدا ، إذ من هو أقرب منا إليهم . يحتاج هذا التنظير السياسي و الثقافي الى القليل من الغسل في النهر قبل جفافه .
في المقبرة كان مشهد : تركناكم وحدكم تواجهون العزل الهادئ ، صامتون ، كل من في المقبرة صامت هكذا عرفناهم صامتون منعزلون ، بينما أعين الناس تقدم شكرها للوجوه الغريبة ، للوجوه القليلة المنضمة إليهم ، ماذا لو كان زعيما آخر أو عميدا آخر ؟ كيف سيتدافع الأخوة للحصول على وقت لكلمتهم قابضين على المايكروفون غير آبهين برجاءات من حولهم ؟ كيف سيكون الوضع مع الوفود التي لا تنتهي و رسائل العزاء ؟ في هذه المقبرة ليس هناك سوى العزل الطويل الذي اتقنا ممارسته . رغم أنهم يحضرون في أفراحنا و أحزاننا ، يسألون عنا أسئلة تسقط الحدود بين نحن و أنتم . نحمل الحكومة دائما لما حدث و يحدث ، فليس هناك من مثلها و حضر أو استعان بكلمة عزاء تقال على عجل ، صمت ينتظر صمت و ينظر الى صمت ، و لكن ماذا عنا نحن ؟
الجمال المندائي كان محجبا بالأبيض ، كلهن لفهن البياض ، لبسن الحجاب الأبيض ما عدى العجائز تمسكن بشيلتهن و جلسن على الأرض يودعن و هن يحركن تراب المقبرة الجاف كما جداتنا و بلغة جداتنا الحافر في الحزن العتيد .
فجأة علا صوت نسائي حين انزل الجثمان في القبر :
بشميهون دهيي ربي لوفا اروها دهيي و شاوق هطايي نهويلي الهاز انشميتي الديلي (كنزابرا جبار ) الهازا مسقتا و شادق هطايي نهويلي ..
باسم الله الأكبر
فليكن اتحادا و ارتباطا بالله ، اغفر ذنوب فلان في العروج ، إغفر خطاياه .
كيف نتخيل مدينتا دون الصابئة المندائيين ، دون مسيحيين ، دون هذه الألوان التي تمثلنا ؟ من كانوا ما زالوا يصوغون ليس الذهب و الفضة فقط بل وجه الماء و معناه ، كيف ستكونين يا مدينة ؟
هناك الكثير ليقال لكن هناك وقت لاعادة صياغته مرة أخرى .
مازال هناك وقت لنعتذر لكم في زعيمكم الديني و الروحي ، مازال هناك وقت لنقول لهم نحن شركاء في الحزن . في المندي يوم الأربعاء صباحا .
شوقلي يا مندايي
تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.