ننقل لكم هذا المقال وهو للكاتب العراقي احمد السعداوي،والمقال منشور في صحيفة الصباح العراقية،حتى يستفيد منه القارئ الاحوازي خاصة وان هناك تشابه كبير مابين الاحواز والعراق من حيث اللغة والتراث والثقافة الشعبية. موقع كارون الثقافي
1ـ
بمناسبة ورشة مخصصة لكتابة الرواية، اقمت قبل ثلاثة أعوام في منتجع قصر السراب الاماراتي، وهو مكان فخم في عمق الصحراء، يقع في مكان قريب من الحدود المشتركة الاماراتية السعودية العمانية. والمكان لمن يأتي إليه من بعيد يبدو كقصر سحري ينبثق وسط بحر من الرمال الجافة. حيث لا نباتات ولا كائنات حية من أي نوع، مجرد كثبان رملية جافة. ولكن المنتجع نفسه مجهز بمختلف وسائل العيش وأسباب الرفاهية، وهذا كلام يمكن ان توصف به أماكن أخرى عديدة، ولكن الشيء المثير بالنسبة لي، أن الشركة الاجنبية التي صممت المنتجع بتكليف من حكومة أبو ظبي، عمدت الى استثمار خطوط وسمات وبصمات الثقافة الشعبية الاماراتية، لتكوين الملامح المعمارية للمنتجع. ابتداء من هندسة البناء الخارجية، وشكل اكساء البناء واستثمار الاعمدة الخشبية والحبال، وليس انتهاءً بالمفروشات واشكال الشبابيك، وهي كلها مفردات معمارية وسمات شكلية منتزعة من طراز البيت الطيني الاماراتي القديم. وهي بالتأكيد سمات قليلة وفقيرة، ولكن عبقرية المصمم انتزعت منها ما يكفي لتصميم منتج فخم، سيقول كل من ينظر إليه انه مكان اماراتي بحت. وهذه هي عظمة الثقافة الشعبية، باعتبارها حاملاً مهماً لسمات الهوية الوطنية.
ـ2ـ
عالمنا اليوم يعيش فيما أسماه البروفيسور برايان كوغان “عصر الثقافة الالكترونية”، وهو المحطة الاخيرة بعد موجة ما بعد الحداثة، وما قبلها من موجات ثقافية كالواقعية والرومانسية والحداثية. كانت كل واحدة منها هي السمة البارزة لعقود من النشاط البشري الثقافي والفكري والحضاري.
ولعل من أبرز نواتج عصرنا الالكتروني هو الانفتاح ما بين الثقافات الانسانية، وتحول ذاكرات الثقافات المتوزعة بين أرجاء الارض الى ذاكرة ثقافية انسانية واحدة، يستطيع أي انسان ان يتعاطى معها من أي مكان يكون فيه.
وفي عصر الثقافة الالكترونية يستطيع الانسان الفرد ان يشكل حصيلته الثقافية الخاصة من دون أي موجهات او عوائق، وبالتالي يوفر عصر الثقافة الالكترونية الفرصة للافراد للانفلات من الثقافة القطيعية، وهيمنة الجماعات، ولهذا يسمي كوغان هذا العصر بأنه أكثر العصور الانسانية ديمقراطية، لأنه يحرر وعي الانسان الطالب للمعرفة من أي اكراهات خارجية. وهي اكراهات مرتبطة، غالباً، بالجغرافيا والمكان والبيئة الاجتماعية. وهي مناطق لا تلعب فيها الثقافة الالكترونية، حيث مساحتها الحرة هي في الفضاء الافتراضي المفتوح، الذي لا يعترف بالجغرافيا ولا بالحدود ولا بالقيود الاجتماعية.
ولأنه فضاء ديمقراطي، فان الأكثر قوة والاكثر فاعلية هو الذي يفرض هيمنته على فضاء الثقافة الالكترونية. وهنا تبرز قوة الثقافات وتبرز نقاط ضعفها، فتخسر الثقافات الضعيفة قدرتها التنافسية في سوق مفتوح وواسع. وتستطيع الثقافات القوية أن تمتد الى كل مكان، وهذا ما هو واضح، كمثال، في الثقافة الاميركية، وبالذات في مجال السينما ووسائل الاعلام.
ـ3ـ
وهنا علينا أن نتساءل: ما الذي يميز الثقافة الاميركية المصدرة لنا عبر حوامل ووسائط عصر الثقافة الالكترونية؟ إنها ليست مجرد القيم الانسانية المشتركة مع باقي ارجاء العالم، وليست الافكار التي تشترك بها مع مرجعها الام، اوروبا، انها بالدرجة الأساس بصمة الثقافة الشعبية الاميركية.
بصمة الثقافة الشعبية الاميركية هي ما يميز الاميركي الانكلوسكوني عن مثيله البريطاني مثلاً. رغم انهما يشتركان بعناصر كثيرة منها اللغة والاصول الثقافية، وهذا ما يميز أيضاً مواطني أقليم كيوبك الكندي الناطق بالفرنسية عن الفرنسيين، وما يميز الاستراليين عن بريطانيا، وكل شعب من الشعوب عن غيره.
وفي عصرنا الحالي فإن ما يعطي القوة لعناصر الثقافة الشعبية لشعب من الشعوب قد يكون وبالاً على شعوب أخرى غير قادرة على الاستفادة من ثقافتها الشعبية وتحويلها الى منتجات معاصرة، فتغلب الثقافات الشعبية القوية، المحمولة على أثير عصرنا الالكتروني، وتتحول الى منتجات تستهلكها شعوب أخرى.
ـ4ـ
بسبب استهلاكنا المتزايد للمنتجات الثقافية الاميركية، بتنا نعرف عيد الهلاويين والبيسبول والاكلات الاميركية، وأشياء كثيرة هي من عناصر الثقافة الشعبية الاميركية. وهذا الضغط لعناصر الثقافة الشعبية في الميديا والاعلام والسينما والتلفزيون والكتب والموسيقى وما الى ذلك، لم يأت عرضاً او بشكل عشوائي، وانما هو نتاج تفكير منظم وتخطيط. ولا يتم ترك أي شيء من عناصر الثقافة الشعبية يموت ويضمحل، لهذا نرى أن هناك مسابقات موسمية تحتفي بغناء الكانتري الريفي، واستفتاءات تصدر كل عام مطربين جدد في هذا اللون الغنائي القديم. وهناك تدوين مستمر واعادة كتابة وتأليف لكل الاساطير الشعبية والخرافات، فلا شيء يموت، أو بالأحرى؛ لا يتم السماح لشيء ما بأن يموت.
وإذا قسنا ما لدينا بهذه الصورة المتوهجة، سنصاب بخيبة كبيرة. حيث ما زلنا بعيدين بمراحل عن أي دور مسؤول تجاه أشكال ثقافاتنا الشعبية، فخلال عقود نشوء الدولة العراقية الحديثة، هيمنت الايديولوجيات على مسار التثقيف العام، وعلى برامج المؤسسات الثقافية للدولة، وحتى هذه الساعة لا أحد يفكر خارج نطاق الايديولوجيا، ومقررات هذه الايديولوجيا ونظرتها الى الثقافة وما تريده منها وما لا تريد. وبسبب ذلك فإننا نخسر جزءاً هائلاً من هويتنا الوطنية، كشعب مميز ومختلف عن غيره من شعوب المنطقة أو العالم.
وهذا الكلام يشمل كل نواحي الثقافة، ابتداءً من الموسيقى والفنون التشكيلية والعمارة والشعر وفنون الحكي والقول والقص الشعبي، والامثال والحكم والتواريخ المحلية للقرى والبلدات، ولا ينتهي عند أبرز الشخصيات التي انتجت وعملت داخل نطاق الثقافات الشعبية المختلفة في العراق.
ـ5 ـ
ليس للدولة خطط في مجال حفظ وتنمية الثقافات الشعبية العراقية، ويبقى الامر مرهوناً بالمشاريع الفردية للمثقفين ومدى قدرتهم على التواصل والاستمرار بها، وهي مشاريع محدودة وقليلة، وتشوبها الكثير من النواقص، وشخصياً كم اتمنى أن يتصدى كاتب عراقي ما، بشكل منهجي لتدوين اللهجات العراقية المختلفة، على شكل قاموس شامل، أو تدوين كل التراث الشعري الشعبي الشفاهي، لمختلف المناطق العراقية، ليكون مرجعاً عاماً للشعر الشعبي واشكاله وانماطه وأنواع الاستعارات والصور البلاغية المستخدمة فيه. أو تكوين متحف للنسيج والسجاد العراقي، بعينات ونماذج من مختلف مدن وبلدات وقرى العراق. أو جمع وحفظ اقدم التسجيلات الصوتية الغنائية وصيانتها، وعدم الاعتماد على اليوتيوب كمرجع، كما هو حالنا اليوم، لانه ذاكرة عشوائية، ولا تضم كل التراث الموسيقي العراقي.
وبالعودة الى منتجع قصر السراب الاماراتي، كم اتمنى ان يتم ايقاف العمل بطرق الاكساء الحديثة للبنايات، بمادة الكوبوند، التي باتت تعطي اشكالاً بلا ملامح ولا رائحة عراقية، وان يتم الاعتماد على خزين المفردات البصرية الهائل للعمارة العراقية، في كل بناية حديثة، وأشيد هنا بشكل بناية مجلس محافظة بغداد الجديدة قرب منطقة العلاوي، لأن مصممها حرص على استثمار جانب من خزين المفردات البصرية للمكان العراقي الشعبي.
وقبل الختام احب ان اكرر هنا؛ هويتنا كعراقيين هي في ثقافاتنا الشعبية وليست في الايديولوجيات والعقائد، لانها عامة ولا تختص بالعراقيين فحسب، ونحن اليوم في عصر امحاء الهويات الثقافية الضعيفة ازاء قوة الهويات الثقافية للأمم الكبرى والمتطورة. فدعونا نسارع الى انقاذ ثقافاتنا الشعبية، لأن في ذلك انقاذا لهوياتنا في عالم متلاطم يكاد يغدو عالماً واحداً.
تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.