لاتخلو الكتب و المجلات و الجرائد و الصحف التي نواجهها اليوم في إيران من مصطلح “عرب الجاهلية”. هذا المصطلح الذی أخذ ینتشر بشكل وسيع في كل ما حولنا من كتابات و تعاليم مدرسية و آكاديمية یتنقل كالسكر بين الأفواه في مختلف المجالس و یستخدم بکثرة غریبة و بشکل غیر معقول في كتب الإبتدائية و الإعدادية حتی الجامعة و نجده في كل شطر يتعلق بتأريخ العرب أو بالأدب العربي مما يترك نظرة سلبیة تجاه العرب فی نفس الطالب و كذلك لاحظت هذه النظرة المتطرفة قد برزت نفسها حتى في المقالات و البحوث الآكادمية للدراسات العلياء لتملئها بالبغضاء و الحقد بهدف أن ترسم صورة سيئة من العرب و صورة متحضرة من قوم الكاتب في ذهن القاريء و المتلقي؛ فعلى سبيل المثال رأيت مقالا علميا من طالب ماجستر كان يذعن أن العرب لم يكونوا يعرفوا الزراعة و قواعد الفلاحة قبل الإسلام بسبب جهلهم على عكس قومه الذين يمتلكون الخبرة التامة في مجال الزراعة و الفلاحة في الوقت ذاته!
بالطبع أن مثل هذا الأسلوب الباغض الذي تجلى في البحوث العلمية و في النظام التعليمي الإيراني يقلل من القيمة العلمية لهذه البحوث و لهذا النوع من التعليم حيث إحدى قواعد العلم هي الحيادية و الواقعية فكيف للطالب و من يستلقي العلم أن يتعلم و يستنتج شيئا حقيقيا من هذه الكتابات الباغضة المتطرفة.
اذاً في هذا المجال نسعى لتسليط الضوء على المعنى الحقيقي لهذا المصطلح (الجهل و عرب الجاهلية) بکل دقة و تعقل و بغض النظر عن کشف نوایا المستخدمین له. فما هو المقصود من الجاهلیة:
أولا_ إذا كان القصد من الجاهلية هو جهل العرب بالعلم أي الأمية و فقد الحضارة فنقول:
إنّ هذا النوع من الجهل لايختص بأمة و كان سائدا على جميع نقاط العالم و قد يوجد في أي مكان و زمان. بل و كانت الأمة العربية اكثر علما و تطورا و حضارة و عقلية من باقي الأمم في تلك الحقبة الزمنية التي كان الجهل يسود و يقود الأمم بأشبع الأشكال من شرقها إلى غربها و جنوبها إلى شمالها. فكانت العرب قبل الإسلام تكتب و تقرأ و تتداول الشعر و الأدب، و هذا ینافي الأمیة و الجهل التان یفسرهما الباغض. و حضارة عيلام و ميسان لأجدادنا العرب و حضارة بابل في العراق (أرض الرافدين) قبل أربعة آلاف قبل الميلاد و حضارة الشام و عظمتها قبل و بعد الإسلام لها شاهد في التأريخ .فلماذا کل هذا التأکید علی جاهلیة العرب في النظام التعليمي الإيراني؟
ثانيا_ إن كان المقصود من الجاهلية هو جهل العرب بالقيم الأخلاقية أو ممارسة سلوكياتٍ غير إنسانية فنقول:
إنّ هذه السلوكيات الجاهلية و غير الأخلاقية لدى العرب كانت أقل بكثير مما كانت تمارسها باقي الشعوب من جهل و تخلف و عادات دنيئة و شنيئة آنذاك و التأريخ خير دليل، و ليس لنا المجال في هذا المقال لذكر كافة الأمثلة و الشواهد فما عليكم إلا بمراجعة التأريخ. و من ثم كانت للعرب منذ قديم الزمان قيم و مباديء أخلاقية يلتزمون بمراعاتها، لهذا السبب عندما جائتهم الرسالة الإلهية تدبروا فيها و أعتنقوا الإسلام بسبب قرابة خلقياتهم و أطباعهم مع تعاليم هذا الدين الحنيف و سعوا إلى نشر هذه الرسالة المباركة خلافا لأمة الزردشت التي مزقت رسالة النبي محمد عليه الصلاة و السلام لأنها كانت تخالف بعض معايير مجتمعهم المتخلف كالزواج من المحارم و الإغتسال ببول البقر و غيرها، فلماذا تؤكد الكتب الإيرانية علی جاهلیة العرب فقط و لاتذكر جهل أمتها حين كانت حياتها و حضارتها ! تقتصر بين جبلين؟!
ثالثا_ إن کان القصد من الجاهلیة هو الجهل بوحدانیة الخالق و شرك العرب بالله قبل الإسلام، فنقول:
ﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻔﺘﺮﺓ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﻭ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﻳﻮﺣﺪﻭﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺣﺪﻩ، ﻭ إن ﺳُﻤﻴﺖ ﺑﺎﻟﺠﺎﻫﻠﻴﺔ فهو ﻟﺠﻬﻞ ﺍﻟﻨﺎﺱ ب”ﻭﺣﺪﺍﻧﻴﺔ ﺍﻟﻠﻪ ” ، و لعدم إيمانهم به عز و جل. فهذا الأمر أي الشرك كان متداولا لدى شتى الأمم آنذاك و مازال جاريا و لايختص بزمان أو مكان أو قوم خاص. فالغربيين و غيرالموحدين حاليا هم أجهل الجهلاء طبقا على هذا المعنى و إن كانوا متقدمين علميا. إذن لماذا کل هذا الترکیز في النظام التعليمي الإيراني علی جهل العرب فقط؟
فمن هنا أثبتنا أن وصف “اﻟﺠﺎﻫﻠﻴﺔ” الذي يطلق حاليا على ﺣﻘﺒﺔ ﻣﺎ ﻗﺒﻞ ﺍﻹﺳﻼﻡ لايدل في حقيقته على جهل العرب بالعلم أو أميتهم و فقدانهم الحضارة -كما يزعم و يدلس النظام التعليمي الإيراني بأغراضه التي ليست خفية علينا -و حتی و إن کانت تدل علی الأمیة أو الشرك أو العادات السیئة فکما قلنا أعلاه إن هذه الأمور لاتختص بشعب خاص أو قوم خاص کالعرب و غیرهم و وجودها یعتبر أمرا طبیعیا في مثل تلك الظروف و ذلك الوقت الذي کان العالم بأسره والغرب خاصة یعیش في جهل عاتم و سواد غاشم.
و مما لاشك فيه أن ﺍﻟﻌﺮﺏ أصحاب ﺃﺩﺏ ﺭﻓﻴﻊ ﻻ يضاهيه أي ﺃﺩﺏ في العالم حتى يومنا هذا، و ﺗﻘﺎﺱ ﺣﻀﺎﺭﺓ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺑﺘﻄﻮﺭ ﻟﻐﺘﻬﻢ و أدبهم ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻌﺮﻭﻑ ﻟﻐﺎﻳﺔ ﺍلآﻥ ﻭ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺼﻮّﺭ ﻭﺟﻮﺩ ﻟﺴﺎﻥ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﻤﺴﺘﻮﻯ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻼﻏﺔ ﻭ الدقة ﻟﺪﻯ ﺃﻧﺎﺱ ﺃﻣﻴﻴﻦ غير
توفیق نصّاري, [۰۸.۰۲.۱۶ ۱۹:۰۲]
العرب، كما أن مفردة العرب تعني الفصاحة و الدقة و الكمال في اللسان و اللغة ؛ فيقول ﻋﻨﺘﺮﺓ ﺑﻦ ﺷﺪﺍﺩ بأن ﺍﻟﺸﻌﺮﺍﺀ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﻟﻢ ﻳﺒﻖَ ﺷﻲﺀ ﺇﻻ ﻭ ﺫﻛﺮﻭﻩ في أشعارهم:”ﻫﻞ ﻏﺎﺩﺭَ ﺍﻟﺸﻌﺮﺍﺀُ ﻣﻦ ﻣﺘﺮﺩَّﻡِ … ﺃﻡ ﻫﻞ ﻋﺮﻓﺖَ ﺍﻟﺪَّﺍﺭ ﺑﻌﺪَ ﺗﻮﻫُّﻢ”
ﻭ ﻫﺬﺍ ﻣﺎ ﻳﺬﻛﺮﻩ أيضا ﻋﻤﻴﺪ ﺍﻷﺩﺏ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﺣﻨﺎ ﺍﻟﻔﺎﺧﻮﺭﻱ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ﺍﻟﺸﻬﻴﺮ ” ﺍﻟﺠﺎﻣﻊ ﻓﻲ ﺗﺎﺭﻳﺦ ﺍﻷﺩﺏ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ” ﻭ ﺍﻟﻤﻔﻜﺮ ﻭ ﺍﻟﻤﺆﺭﺥ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ” ﻓﻠﻴﺐ ﺣﺘّﻲ ” ﻓﻲ
ﻛﺘﺎﺑﻪ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺪﺭﺱ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺟﺎﻣﻌﺎﺕ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻭ عنوانه “ﺗﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﻌﺮﺏ”، كما و يؤكد كثير من كبار مؤرخي الغرب على هذا الأمر ، منهم الفرنسي”غوستاف لوبون” صاحب كتاب “حضارة العرب” فيثبت هذا المؤرخ الشهير أن الأمة العربية كانت هي الحاضنة الوحيدة لكل الحضارات و التطورات و المدنية قبل الإسلام حتى العصر الذهبي للخلافة الإسلامية و يمتدح العرب بأنهم نقلوا العلوم و الكتب و أنماط الحياة المدنية إلى الغرب الجاهل آنذاك.
فكيف الشريحة المثقفة في إيران تتجاهل كل هذه الأدلة العقلیة و المنطقیة و الكتب و الآثار التأريخية المعتبرة التي تنص على حضارة العرب قبل الميلاد و قبل الإسلام و لكنها مازالت تصر علی التعلیم الباغض و تنشر النظرة السلبیة تجاه العرب في نظامها التعليمي(التجهيلي)؟ و من الذی أحق بوصف الجاهلیة ؟
ولو بسبب بعض المؤامرات العالمية تهدمت معظم الحضارات و المعالم العربیة و تغيرت نصوص التأريخ و الحق أصبح باطلا و الباطل يزعم نفسه على حق.
تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.