يكفي -في نظري- أن نتأمل تعريف ابن خلدون للأدب؛ لندرك رحابة الاتجاهات والغايات التي تنشدها الأندية الأدبية اليوم، ففي المقدمة ذكر ابن خلدون كلاما فضفاضا في حدّه الأدب، حتى قال عنه: “هذا العلم لا موضوع له، ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور، ثم إنهم إذا أرادوا حدّ هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كل علم بطرف، يريدون من علوم اللسان، أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط، وهي القرآن والحديث” (المقدمة، ص553).
فابن خلدون في هذا التعريف -وإن وسع من دائرة الأدب- غير أنه حاول حصره في إطار من العلوم اللسانية، وجوانب من العلوم الشرعية، وكأنه يرمي إلى التركيز على الخطاب الأدبي، فليس الأدب شعرا ونثرا فحسب، بل الأدبية في كل ما يجعل من الخطاب أدبا، ومن هنا خلط البعض -في ظني- بين الأدب وطرائقه وغاياته، وصار ذلك الخلط بابا يفضي إلى مجالات لا علاقة لها بالأدب أحيانا، فتداعت اتجاهات كثيرة على الأندية الأدبية ليست من اهتمامها، وأصبحت بعض الأندية ورشا للتدريب، ومعارض للتسويق، وصار الكل يدعي وصلا بليلى، حتى إنك لا تستغرب أن ترى بعض الأندية تعقد أمسيات في التحليل الاقتصادي، وتقيم دورات في الإسعافات الأولية، وتحاضر في علم الجريمة، ونحو ذلك مما هو ليس من شأن الأدب في شيء.
ثمة مشكلة أوسع وأعمق، وهي نعت الأندية بالثقافية في مقابل اتساع الأدب، وهي مشكلة يخلط فيها الكثير، فمن الصعوبة -في نظري- تحديد نعت يوائم بين الأدب والثقافة، وبخاصة إذا تأملنا تعريف ابن خلدون السابق الذي حاول -رغم اتساعه- ألا يخرج عن نطاق العلوم اللسانية، لكننا إذا نظرنا مثلا إلى حديث (دنيس كوش) عن الثقافة في كتابه (مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية) ألفيناه من عتبته الأولى (العنوان) يشير إلى أن الثقافة شيء عام قد تكون في أي علم، فهي لون من المهارة في أوضح دلالاتها المعجمية التي تشير إلى التقويم والتهذيب؛ ومن هنا فمفهوم الثقافة أوسع مما يتخيل؛ لذلك يقول (دنيس كوش): “يحظى اليوم مفهوم الثقافة منظورا إليه في معناه الممتد -والذي يحيل على أنماط الحياة والفكر- بقبول واسع على الرغم من أن ذلك لا يسلم أحيانا من بعض الالتباسات” (مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ص11) وهذا الاتساع كافٍ لانفلات أهداف الأندية وعدم وضوحها؛ إذ يدخل في إهابها حينئذ كل شأن عام، فتتمطى الجهود حائرة بين الدين، والسياسة، والتاريخ، والجغرافيا، والسياحة، والآثار، والعلوم والمعارف الأخرى دون مسوغ.
أخيرا لا بأس بأن تسهم الأندية في خدمة الدين، والوطن، والمجتمع، والإنسان، ولكن لا بد -في نظري- من وضع وصف دقيق لها؛ حتى لا تصبح كالأندية الرياضية التي كانت سابقا تضع شعار (رياضي -ثقافي -اجتماعي) وهي لا تتعدى الرياضة، بل لا تكاد تتعدى كرة القدم فقط، وكأن الرياضة هي كرة القدم، وكذلك الأندية الأدبية ينبغي ألا تكون عامة في كل وادٍ، ولا أن تكون حكرا على الشعر وحده، أو القصة والرواية فقط، أو نحو ذلك، بل تنفتح على الأدب فحسب، وما يتصل به من تأريخه، ونقده -حتى ثقافته- وعلاقاته بالعلوم الأخرى تحت ما يُعرف اليوم بالتفكير البيني.
المصدر:صحیفة الریاض
الأحد 13 صفر 1438 هـ – 13 نوفمبر 2016م
تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.