
أيعقل أن تكون تصوراته كلّها محض أوهام . . .! ؟ فمن بين حساباته أنه عندما يصل الى الحدود، يراهم في الجهة الاخرى يحملون ورودا في أكفهم، متهيئين لاستقبالهم، فلقد غابوا عنهم طيلة عشرة أعوام… كلمات الترحيب تعزف على طبلة أذنيه دون أن يتفوه بها أحد ما، إنما هو حبه وولهه لكل شئ هناك. . . ! ، الارض والسماء، الماء والهواء، ناهيك عن البشر الذين لم يرهم منذ كان طفلا لا يعي شيئا. كل ما عرفه عنهم وأيقن به، أخذه من الاعلام والحكايات.
آهٍ من لهفته، وهو يمشي يأخذ نفسا عميقا، كأنه يستنشق عبق ورود يأتي من الجهة الاخرى للحدود، حتى أيقظته صرخة لم يعرف معناها ذلك الحين… !إيست . . . حركت نكن . . !( قف، لا تتحرك)
كبح أفكاره التي حاولت شرح بعض الحقائق… ،
لكنه عاد الى همهمات خياله و عشقه المستميت، واضعا أمام عينيه المبررات لهذه الصرخة المشوبة بالإستفزاز الحركي… ” إنها حدود والواجب يفرض عليهم الحذر ” رغم أنهم اعتادوا على مجئ عشرات النازحين يوميا من هنا بعد أن اشتد القصف وأنهك الحصار جيرانهم المسلمين.
حتى عندما أمروهم أن يصعدوا إلى الباص لنقلهم الى المدينة، لازال و هو يصعد يستنشق الهواء بعمق كأنه يشتم هواءً غير الذي اعتاد عليه طيلة حياته الماضية، حتى باغته احد الجنود بضربة من عجز بندقيته على ضهره آمرا اياه أن يتحرك. . . .!
آه… .لا بأس فهو ( الجندي) لا يعلم مدى حبي وموالاتي لهم..!، مسكين هذا الجندي . . . بل شريف..، فهو يؤدي واجبه بأمانة .
عندما اجتازت السيارة بضعا من مئات الامتار، نهض شخص ممن كانوا برفقتهم وكان يرتدي ملابس مدنيه، وأخذ يعصب أعينهم واحدا تلو الآخر، وعندما جاء دوره، أخذ يستنشق هذه المرة الهواء المار بملابس وجسم غريمه بتلذذ، بينما كان الآخر يعصب عينه مانعا إياه عن الإبصار .
ما ألئم العشق، يجرنا أحيانا الى مستنقع الذل دون أن نعلم. . . ! .
وتحركت السيارة بهم دون أن يرى شيئا مما كان يتمناه… فٱكتفى باستنشاق عبق من يحب، رغم انهم آخذوه إلى المنفى… فالاغلال تأخذ محل أمانيه بإستلام الورود… والسباب بدل كلمات الترحيب، وأما مكان الاحتضان والتقبيل، كانت اللكمات تتمطى مصحوبة بضرب من اعجاز البنادق… !
قضى سنتين في سجن كارون، دون أن يعرف سببا لذلك سوى انه كان في العراق .
قرر بعد الافراج عنه مواصلة تعليمه الذي اجتاز منه المرحلة الثالثة في كلية الطب.
قدم أوراقه كاملة كما كان يتصور، لكنهم بادروه بوجوب أخذ امتحان شفهي في مكتب التوجيه السياسي( عقيدتي) .
جاء في الزمان والمكان المحددين، فأشار له البواب الى الدخول بعد طول انتظار.
كان يجلس خلف الطاولة المستطيلة على كرسي دوّار شيخ ( معمم ) ناهز الخمسين من عمره، منهمكا بمكالمته الهاتفية، حتى انه لم ينتبه أو تظاهر بعد الانتباه لوقوفه أمامه… !
وضع سماعة الهاتف بعدما كاد الجزع يغلب على القادم قائلا :
بفرما… .؟ ( تفضل )
انا الطالب ول… . ( قاطعه الشيخ قائلا):
اعرف، اعرف… طالب كلية الطب…
ثم أردف مستفسرا :
كنت في العراق إذا… ؟
نعم.
أيام الحرب كنت في العراق… ،! ؟
نعم .
وتدرس في كلية الطب… .ويلٌ لك… !
حاول الطالب أن يتكلم، ولكن الشيخ سحب نصف جسمه المتكئ على الكرسي الدوار نحو الأمام، بحركة تظهر انزعاجه ثم اسند جسمه على كفيه وهو يضعهما على الطاولة التي أمامه، وبصوت مرتفع صاح به :
انت تعلم ماذا يعني هنا إرتياد كلية الطب..! ؟ كلية الطب مرة واحدة… ، الويل لك.
حاول الطالب مرة أخرى توضيح بعض الامور، لكنه قاطعه هذه المرة متظاهرا بالهدوء وهو يقول، لا عليك من هذا… دعنا نتكلم بالمفيد ، ثم أخرج من درج المكتب بيضة أحسبها لدجاجة وبدأ يدوّرها على زجاجة المكتب، متحاشيا سقوطها، رفع رأسه بعد ما كف عن العبث بالبيضة مخاطبا اياه :
لو سقطت ماذا يحدث لها ( يقصد البيضة ) ؟
ثم عاود التدوير بها.
فأجابه بصورة بديهية..
تنكسر..!
تبسم الشيخ وهو يقول بإستهزاء…
كنت في العراق… .وتدرس الطب..يؤسفني أنك لم تكن موفقا بالإجابة…
ولكن يا شيخ… .( أراد الطالب أن يتكلم ولكن الشيخ قاطعه بعبارة) :
لو أراد الله، لن تنكسر… !
عند هذا لم تعد مشاعره قادرة على نسج الاعذار والمبررات، ” فالكره والجهل إن نميا في بيئة ما، لن يبقيا محلا لاقامة الارواح البريئة .
المصدر صفحة الكاتب الأحوازي محمد الشويكي على موقع الفيسبوك
شكرا جزيلا للقائمين على ادارة الموقع، مع خالص الحب والامتنان لمن يساهم بدعم ونشر ثقافتنا الادبية.
دمتم سالمين.
إعجابإعجاب