قراءة في السياسة الخارجية الإيرانية.. الجزء (8)- بقلم: د. عبدالله حوّيس

abdolla-howaiesموقع كارون الثقافي- متابعات- موقع المدارنت- بعد توقف خارج عن إرادتنا دام عدة شهور، نعود في هذا الجزء، لنكمل الحديث عن السياسة الخارجية في مرحلة حكم الشاه طهماسب ابن الشاه اسماعيل الاول (1524/1576 م.).

في عام 1561 م. بعثت ملكة بريطانيا إليزابت الأولى (1533-1603 م.) أنتونين جون كينسون، مندوبها الى الشرق، للقاء الشاه طهماسب. وعند لقائه بهذا المندوب، بعد أن قيل له ان المندوب مسيحي، فاجأ طهماسب الجميع، أولاً بطلبه من هذا المندوب الخروج فوراً من البلاد، وثانياً بطلبه من خدمه أن ينظّفوا ويطهّروا الأرض التي وطأها جون كينسون.

والمفاجأة تعود، من ناحية، الى ان طهماسب كان طبعاً يعلم مسبقاً انه مسيحياً. ومن ناحية اخرى، أن جون كينسون كان قد التقى بعض المسؤولين الإيرانيين وبخاصة الأمير عبد الله، حاكم شروان في القوقاز، وعقد معه معاهدة تبادل تجاري بين بريطانيا وفارس. ولم تطل المفاجأة، حيث تبيّن أن ما فعله طهماسب لم يكن أكثر من مسرحية، لخداع وفود من الدولة العثمانية كانت تزور الدولة الصفوية، وإظهار أن ايران لا يمكن ان تتفق مع الدول المسيحية ضد مصالح المسلمين.

بعد ست سنوات، تم توقيع معاهدة تجارية مهمّة بين ايران وبريطانيا وتطورت العلاقات بينهما، مما فتح المجال أمام إيران، فيما بعد، لتسليح وتدريب جيشها في فترة حكم الشاه عباس الأول (1587-1629م). وقد حصل ذلك عبر الأخوين انتوني شارلي (المتوفي عام 1635 م.) وروبرت شارلي (المتوفي عام 1628 م.). فقد أشرف انتوني على تنظيم وتدريب الجيش الصفوي على العلوم العسكرية الحديثة، وعلى عقد تحالفات عديدة مع القوى الأوروبية. وتولى روبرت الاهتمام بالتجارة وأصبح بيته ملاذَ القادمين الى إيران من مختلف الأقطار وخاصة الأوروبيين، فازدهرت التجارة وكثرت الأموال والثروات.

وبذلك، استطاعت إيران تحقيق عدة انتصارات على العثمانيين، فاستعادت بغداد والموصل وديار بكر، وسيطرت على سواحل الخليج العربي وكثير من الجزر.

يجدر بالذكر هنا أنه في وقت لاحق، في القرن الثامن عشر، كان الأمير العربي مهنّا بن ناصر الزعابي يحكم من جزيرة خَرَج (قرب الساحل الشرقي للخليج وكانت تسكنها قبيلة بني زعاب العربية) الى حدود مدينة فارس، وهي مدينة شيراز حالياً. وقد قاوم الفرس وقاتلهم، فتكاثرت ضدّه المؤمرات الى أن أدّت الى قتله، فاستطاعت القوات المتحالفة الأوروبية/ الإيرانية الهيمنة على بعض جزر الخليج العربي.

وكما العلاقات مع بريطانيا، يمكن التطرق أيضا الى نموذج آخر، وهو العلاقات مع فرنسا من عام 1801 الى عام 1807 م. في فترة حكم نابوليون بونابرت، التي استفادت منها إيران كثيراً. فعبر هذه العلاقات، تولت فرنسا تدريب وتحديث الجيش الإيراني، وتعلمت إيران الكثير من العلوم والمفاهيم السياسية الحديثة، وأوجدت كوادر حكومية تدير وتخدم الدولة، كما استطاعت التمرس في التعامل مع دائرة الدول الكبرى.

وكما رأينا، لم يكن للسياسة الخارجية الإيرانية مواقف ثابتة تحكمها، وإنما كانت تتبنى وتتعامل مع كل ما يخدم مصالحها، ولا تتورع عن المماطلة في علاقاتها، وليس الدين إلا مبرراً يستر وراءه شهوة السلطان والسيطرة والطمع بمزيد من الأراضي والموارد والسكان. وفي حالة الشعور بالهزيمة كانت تلجأ لتقديم التنازلات والتفاوض مع عدوها من أجل تفادي وقوع خسائر فادحة، وهذا ما حصل مع العثمانيين ومع الإنكليز ومع الهولنديين.

بشكل عام وباختصار شديد، تتصف السياسة الخارجية الإيرانية بأنها سياسة تبادل “وأخذ وعطاء”. لكن في علاقاتها مع الغرب، وعلى الرغم ممّا حققته من فوائد، كانت بالمحصلة الإجمالية خاسرة لأن الدول الغربية أكثر حنكةً ودهاءً وخبرةً وقوةً منها. أما في علاقاتها مع الدول المجاورة، فإن إيران تتقدم عليها بخطوات عديدة نتيجة الخدمات التي قدّمها لها الغرب، وتجاربها معه، وما اكتسبته منها.

بهذا الخصوص، نذكر هنا ما قاله هيلموت شميت، المستشار الألماني، قبل موته عام 2015، متكلماً عن الدور الروسي، بأن الغرب لم يسمح لروسيا بالتمدد في اوروبا، لكنه يغض النظر عن تمدد نفوذها في آسيا طالما انها لا تهدد مصالحه. وقياساً على ذلك، يمكن القول أن هذا المنطق نفسه يطبقه الغرب على إيران، فيسمح لها بمدّ نفوذها في الشرق وخاصة في المنطقة العربية، ضمن إطار تفاهماته معها وبما لا يتعارض مع مصالحه، لأنه ينظر اليها كقوة أساسية في المنطقة له فيها ومعها مصالح مشتركة مهمّة. فالهدف الرئيسي للغرب هو إعادة تأهيل النظام الإيراني وليس إسقاطه، بحيث يمكن الاتكال عليه في القيام بمهام إقليمية شبيهة بما كان يتولاه نظام الشاه محمد رضا بهلوي. ألم توكّل أمريكا إيران بالسيطرة على العراق، بشرط تقاسم النفوذ والمصالح والثروات في المنطقة ؟ هذا، على الرغم من تهديدات وإجراءات (الرئيس الاميركي دونالد) ترامب، التي يبدو انها تدخل في إطار الخلاف على الحصص والمطامع.

أستاذ التاريخ والدراسات الإسلامية في “جامعة بوخوم”/ ألمانيا.

تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

موقع ويب تم إنشاؤه بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

%d مدونون معجبون بهذه: