شجرة التوت.. أول رواية نسوية أهوازية/اعداد:إستبرق أحمد

لندن-موقع كارون الثقافي-نقلا عن صحيفة القبس الثقافية- نهض الأدب الأهوازي بجدية في السنوات القليلة الماضية، محاولا مد جذوره والتواصل مع الضفاف القريبة. «رواية شجرة التوت» كأول رواية أهوازية نسائية ونسوية لـ«مريم لطيفي» تفعل ذلك، عبر وعي الكاتبة الذاتي والموضوعي الاجتماعي لقضايا المرأة وسلسلة معوقاتها، تتناول «لطيفي» حياة ثلاث نساء من أسرة تقليدية: الابنة المحاطة بالأعراف، الأم المصابة بالذعر والخيبة من إنجابها الإناث، الجدة الحكاءة الجائعة دائما، جميعهن في مواجهة ترسانة الفكر الذكوري الذي أدى لإخراج الابنة/الساردة من المدرسة وإنهاء حكايتها مع ابن عمتها ومرض الأم قاطف الذكريات وجوع الجدة العارم.

شجرة التوت، عنوان رواية واقعية، يشيّدها التخييل، تاركا للوصف الصوت الأعلى كشأن هذا النوع من الروايات، يقابله أيضا أبرز العناصر في الرواية المعاصرة، وأعني بذلك «الشخصية»، وهو ما رأيتهما في الرواية بوضوح سافر، فالوصف للمكان، والشخصيات المتنوعة حاضرة دائما وغنية بجمالياتها، موضوعها يدور حول والد طيب يبحث عن الوريث فيظلم زوجته بأنانيته وبناته بتدخلات العم القاسي، ووجود عمتين إحداهما خائفة على ابنها، والأخرى على مصيرها، وجدة حكاءة، تقدم الرواية بضمير متكلم من خلال الابنة الكبرى منى، مُسقطة ورقة التوت فنرى مرارة الحكايات.

الغلاف
بلون ترابي نلمح ارتباطه بأراضي الأهواز الخصبة، يظهر في الواجهة امرأة ورجل يكاد رأساهما أن يتماسا، كلاهما بعيون بلا أحداق أو محاجر بلا عيون، مدخل للدلالة على قصتهما، لوحة تجعلنا نشك باكتمال حكايتهما، وبما أن لكل غلاف مزاياه الجمالية في محاولة استقطاب القارئ وفائدة تجارية في تسويق النص، فيجب ألا نغفل أهميته في التدليل على ثقافة الكاتب الفنية والبصرية، بالتالي اكتشاف أن اللوحة من رسم الكاتبة يعني مثولنا أمام غلاف يحيط بالحكاية أكثر، وحسنا فعلت الكاتبة/الفنانة بتعديل اللوحة الأصلية بإزاحتها النخلة الموجودة فيها حتى لا تربك القارئ حول رواية تهتم بشجرة توت. 

العنوان

وظيفته أن يوحي، يكمل، يساعد، يكثف، ويلفت ذائقة القارئ وقد تحقق دوره في «المضاف والمضاف إليه»، وابتعدت الكاتبة عن العناوين الطويلة أو العناوين الفرعية. وقد تبعه مفتتح يخبرنا: «هذه الرواية ليست من صنع الخيال» ليلحقه الإهداء: «إلى المرأة الأهوازية»، جملتان مشاكستان، تعنيان خلاف الظاهر، فهي رواية من الخيال لكن تكرارها جعلها متجذرة في الواقع، وهي للمرأة الأهوازية فعلا، لكونها نشأت في بيئتها، إنما هي كذلك مهداة لكل النساء في العالم ممن عانين ظروفاً تطابقت أو تشابهت معها.

بالعودة للعنوان، نشير إلى أن لشجرة التوت أهميتها وإن باتت تختفي من الحياة الأهوازية لأسباب منها امتداد المدنية أكثر، لذا ربما تمسكت الكاتبة بها، وجعلت نساء البيت يملن لمحبتها دون الأب عاشق النخيل لتسليط الضوء عليها، ونوعت تواجد الشجرة الكائنة في حديقة المنزل، عبر أحداث فارقة بعضها، فظلّلت أول حوار فضولي بين الساردة وأحمد لتنطلق مزامير الحب، وتحت ترابها دفن فرخ دجاج نبشته العمة صديقة لتعثر على ما ظنته لعنة سحرية، وأصيبت الأم بتعبها بعد مواجهتها للأب بقربها، كما أنها شجرة الأمنيات التي علقت الابنة مائدة أمنيتها على أغصانها فتحققت بزواجها. ورمزت للأسرة والأم، لذا لم يستطع الأب ناصر بعد زواجه بأخرى استرجاع عافية الشجرة رغم عنايته بها. وعلى الرغم من جمالية وصوابية اختيار العنوان بكل حمولاته الدلالية، فإنه كان بالإمكان اختيار عنوان أقل استهلاكا برمزيته، وربما كنت مخطئة. 

الحدث

ينشّط الرواية في تفعيل العناصر الأخرى ضمن نسيجها، لا مجال للتعثر فيه، ومن هنا تظهر قوة وتمايز كاتب عن آخر، وتتنوع الأنساق في كيفية تقديمه، أشهرها النسق المتتابع، والذي تكون الأحداث به متتالية، وهو نسق معتاد، أما هنا فنحن أمام نسق متداخل أي يقوم على استرجاع الأحداث وعودتنا إلى الحاضر، تبدو تقنية الفلاش باك السينمائية حاضرة في إيقاف وتحريك الزمن للخلف، فلا تصاعد لسلسلة الأحداث والزمن، بل مراوحة بين الأزمنة، مع الاستعانة بالمونتاج كتقنية سينمائية لربط الأحداث وإبراز مواقف الشخصيات الرئيسية والثانوية وأحداثها وتاريخها، وقد استعانت الكاتبة بالتشكيل البصري للخط، فكان الزمن الحاضر بخط غامق بينما الماضي بالخط الفاتح وظل النص دائما محكما ومنسجم الزمن. 

الشخصية

بيرسونا أيها القناع الذي سيرتديه الكاتب أثناء الكتابة، واقع العملية التشويقية تفترض تناوب الكاتب، في الاستغراق بأفكار الشخصية وبتلقي القارئ دون إفلات سيطرته ككاتب على النص، وللشخصيات التي تدور حولها الرواية مواصفات تجعلها ثابتة أي أحادية أو متنامية، لها أبعادها مع الحدث، تتطور في مواقفها مع الشخصيات الأخرى والبيئة. وقد رأينا الابنة كشخصية متنامية، لها تحولاتها وتقاطعاتها مع العم منصور وهو شخصية أحادية ينقصها الصراع الداخلي، وهذا العم له من اسمه نصيب، حين كانت اشاعاته وأحكامه فوق مصائر الجميع، أما الجدة «أم ناصر» فهي الممتلئة بالحكايات فلها في موروث الشفاهية مخزون لا ينضب، سواء من الأمثال، والأغاني والقصص، بعضها واقعي منها حكاية «وحيدة» التي رأت «سليمان المشؤوم» (وهو شخصية أحادية لها دور مهم) وسيلتها للتحرر من سجنها القَبَلي بعد قتل حُبها، وبعضها خيالي كقصة بي بي خانوم وابنتها والغيرة والسحر، هي جدة ربما كان جوعها هو المعادل الموضوعي لتوقها الدائم للأمان أو لما فقدته من حب، فأشعلت جوعنا لحكاياتها وأغنياتها، تنحسر حواسها، وتصر على الإنصات دون التدخل، ضعيفة، مستسلمة بينما قصصها عن نساء قويات، أما التوأم «كفاية ونهاية» و«منتهى» فكانتا تعويذة الأم للتوقف عن إنجاب البنات دون أدنى تأثير آخر.

الزمن

لص، يسرقنا ونتبدل معه، السرد والوصف زمنان أيضا، يجتمعان ويختلفان أحدهما يتتابع بالأحداث، أما الآخر فتأملي للشخصية والمكان. يظهر الزمن في السرد سواء بتسريعه أو إبطاء الحدث وذلك حين استخدام الحذف والإيجاز في بعض الحكايات، من ذلك إلغاء تفاصيل زواج الأب بامرأة أخرى وكل ما يخص هذه الزوجة، أو في استرجاع الجدة لوقائع حبها بينما لا تشير مطلقا لاسم زوجها الذي ربطتها به مقايضة عشائرية ومن ثم أبناء، وأما الإبطاء فتحقق برسم المشاهد بحوارات مكثفة ومعبرة عن علاقات الشخصيات ببعضها ومستوياتها الثقافية وتنوعها وانفعالاتها، ومونولوجات الساردة وكذلك الوقفات الوصفية. هل ذكرنا أن الزمن والمكان يتداخلان أيضا؟ 

المكان

تتعدد مسمياته ولا يقتصر على أن يكون مجرد خلفية للأحداث والعناصر الأخرى. لذا كان في رواية «شجرة التوت» مرسوما بإتقان الوصف، نقلت من خلاله خصوصية البيئة والشخصيات وأفكارهم ونهج حياتهم، فرأينا البيت بتفاصيله، سوق عبدالحميد للملابس، سوق كيان للخضروات والأسماك، شاهدنا انعكاسات خياراتهم على أسلوب حياتهم، من آثار اجتماعية كالثارات التي غيرت الجدة الحكاءة والحفيد أحمد المشوّش نفسيا بوفاة صديقه عباس برصاصة غاضبة، ومقصلة الفكر الذكوري الجائر للعم التي بترت مستقبل الساردة مرتين، دون تجاهل سطوة المشكلات الاقتصادية التي مسّت مثلا كريم زوج العمة صديقة بالتحولات ازاء تقليص العمال وطرده من المصنع، واتجاهه للإدمان، وتعديه بالضرب على المدير العام وسجنه ومن ثم عودته لذاته الطيبة، كما بيّنت الكاتبة ضيق السجن بالرغم من سعي إدارته لاستئجار فنانين لتخفيف لون كآبته. أما من ناحية الوصف للشخصيات وهدفه إبطاء السرد وتعزيز المعلومات لخطاب الرواية فقد كان الوصف يتم عبر لغة بارعة وتفسيرية رمزية هدفها وصف الحالة النفسية للشخصيات، وهو واضح في بعض الشخصيات وهي تضعهم في مواقف شتى، سواء بأبعادهم الخارجية الشكلية، أو النفسية، أو الاجتماعية والفكرية، محاولة جهدها تحريكهم عبر رواية زاخرة بهم.

اللغة

اللغة أحد الأوعية التي لا يمكن عدم الالتفات لها، لديها كالسرد والمكان القدرة على احتواء واحتضان العناصر الأخرى في النص الروائي، بالتالي ظهرت هذه العناصر في رواية «شجرة التوت» بواسطة لغة جميلة بتراكيبها، بلا تعقيد أو استسهال فج ولا استرسال بغيض، لغة يمكن أن ندعي لطف إيحاءاتها، تنزلق كالنهر فيوقظ سنابل الفضول والتشويق، لغة سردية تكثر فيها الأفعال، وفي ذلك توليد للحركة والأحداث، يشوبها شيء من الشاعرية فتقول مثلا: «مر في حياتي أشخاص، كما تمر الريح على التراب وتذروها، وما التراب إلا روحي». ولا تخلو من الألاعيب الواضحة، ففي الاستهلال تقوم الساردة بالخياطة، وكأن الكاتبة تنبهنا في هذا المشهد الى أنها الآن تقوم بخياطة نسيج الرواية، وتشير في الجملة اللاحقة لامرأة تائهة نظنها الجدة، إذ تتبعها بالحديث عن زيارة نسوة للجدة، لكن برشاقة الخياطة الماهرة تنتقل للمرأة المشوشة مجددا فنعرف أنها الأم المصابة بجلطة دماغية، تشابكات نسيجية تقوم بها الكاتبة منها ربط رائحة الفلافل في السوق فتستدعي رائحة طعام مطبخ زوجة الأب، أو تخبرنا عن ساردة تحاول العيش دون ذكريات بينما والدتها تبحث عن الذكريات للرجوع لوعيها وذاتها. في النهاية تغلق الرواية بخط فاتح واهن، فنستنتج أن الساردة تسجن نفسها في الذكرى رافضة للعيش في حاضر قاتم.

هكذا نجد الكثير من الجهد لرواية أولى خالية من ارتباكات البداية، خلقت نصا يستحق التناول من زوايا مختلفة، والتداول في الأهواز والتواصل مع الآخر.

مريم لطيفي لـ «القبس الثقافي»:  أكتب عن المجتمع والقصص التي تحدث في زواياه وخفاياه

في البداية أود أن أقول إنني أعشق الكتابة، لهذا أكتب لنفسي أولا ثم أود أن أشارك القارئ رأيي وفكري بقدر ما أحترم القارئ، أحترم قراءته وفكره وتعمقه. أنني أكتب عن نفسي كامرأة وعن النسوة وعن المجتمع والقصص التي تحدث في زواياه وخفاياه.

حدثت أمام ناظري قصص كثيرة، قصة المرأة التي سكتت إلى الأبد كانت الحافز الرئيسي لكتابة هذه الرواية والقصص الكثيرة من حولها كحكاية المرأة التي أرغمت على العيش في دائرة مسيجة بالحقد والكراهية مدى الحياة وغيرها من القصص الكثيرة الحزينة للنسوة والبنات في رواية واحدة.

لم تكن لدي تجربة كتابة رواية وكانت تبدو لي بعيدة المنال وكنت أخاف من خوض هكذا تجربة. كانت لدي عدة محاولات في كتابة القصة باللغتين الفارسية التي تعلمتها في المدرسة والعربية التي هي لغتي وكياني، وكانت لدي مجموعة قصصية عربية نشرتها عام 2017 وكنت أعلم أن كتابة الرِّوايةِ تختلف تماما عن القصة، إنها مسعى طموح وعمل إبداعي أدبي يحتاجُ إلى مثابرة وخيال أوسع، يحتاج إلى شخصيات كثيرة بالنسبة للقصة، يجب أن تخلق شخصية، تتغمسها، تغوص فيها وتعيشها. يجب أن تسعى كثيرا، تخلق وتبدع وتراجع الكثير وتضيف وتمسح الكثير مما صنعت وابدعت لتنقح الرواية لتكون متناسقة أكثر، حتى ترغم أن تحذف شخصيات هي عزيزة عليك، قتلت وقتا كثيرا لأجلها.

حاولت أن أخلق لكل شخصية قصة، وأن ارسم وافيضها من خيالي جمالا وقوة، حاولت أن اغوص في الشخصية واسكنها وأعيش معها واتذوق ما تتذوق من الحياة حلاوتها ومرارتها.

كانت لدي مخاوف من حيث القارئ، ونجاح الرواية. هناك قارئ يتلقى ما تكتبه، يتذوق ما ترسمه، قارئ يتمتع بثقافة التعمق والاكتشاف. لهذا يجب أن تخلق عالما غير مرئي أن تضع رموزا وخفايا وغموضا ومجالا يخوض به القارئ.

أنا سعيدة جدا بهذه التجربة وأعترف أنني خلال هذه التجربة اضطررت أن اتعمق أكثر في المجتمع والشخصيات. هذه التجربة كانت خطوة كبيرة لا بل قفزة في حياتي من حيث المعرفة، معرفة نفسي، معرفة الأشخاص والشخصيات من حيث التعمق في الآفاق والجمال والكمال.

كلمتي للقارئ العربي، خاصة الرجل بخلاصة هي أن هناك كيانا عظيما وهو المرأة لا يمكن أن يهمش ويداس، بل يجب أن يعظم ويقدس.

الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق.

بالنسبة لردود الفعل كانت جيدة حسب ظروف وامكانات المجتمع الاهوازي، وأتمنى أن تصل الرواية للقارئ في العالم العربي.

المصدر:

https://alqabas.com/article/5858067-%D8%B4%D8%AC%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%AA-%D8%A3%D9%88%D9%84-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D9%86%D8%B3%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D9%87%D9%88%D8%A7%D8%B2%D9%8A%D8%A9-

تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

موقع ويب تم إنشاؤه بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

%d مدونون معجبون بهذه: