صعوبة أن يتخلَّى المرء عن لغته | فصل من كتاب «غيرة اللُّغات» لـ أدريان ن. براڤي

تغيير اللغة يقتضي ضمناً نوعاً من «المأساة الشَّخصيَّة». تجربة الهجرة تُخاض، ولكن من دون فقدان الماضي، لأنَّ الماضي، والحال هذه، يُزار ثانيةً في ضوء لغةٍ جديدة. عند هذه النُّقطة، يبدو لنا أنَّنا نمتلك حياةً متصدِّعةً، مقسومةً على لغتين أو أكثر؛ وكلُّ ذكرى من ذكرياتنا تتحدَّث بلغتها.

في كتاب سيرته الذَّاتيَّة «تكلَّمي أيَّتها الذَّاكرة»، يروي لنا نابوكوف أنَّه خلال منفاه في كامبردج (بعد أن غادر أوَّلاً سان بطرسبرغ في عام 1917، ومن ثَمَّ شبه جزيرة القرم في عام 1919) كان قد كرَّس نفسه للأدب وحسب، غيرَ عابئٍ بالأمور الأخرى، بما في ذلك السِّياسة. في «غرفِهِ بكامبردج» قرأ «أغنيةَ حملةِ إيغور»، وأشعارَ بوشكين وَتيوتشيف، ونثرَ غوغول وَتولستوي، ومؤلَّفاتِ علماء الطَّبيعة الرُّوس الذين وصفوا المناطق البرِّيَّة في آسيا الوسطى. وفي أحد الأيَّام عثر في كشكٍ في ساحة السُّوق العامِّ على نسخةٍ مستعملةٍ، في أربعةِ مجلَّداتٍ، من قاموسِ دال[1] التَّفسيريِّ للُّغة الرُّوسيَّة المعاصرة. اشتراه عاقداً الأمل على قراءة ما لا يقلُّ عن عشر صفحاتٍ منه في اليوم:

إنَّ الخوف من فقدان الشَّيء الوحيد الذي استطعت استبقاءَه من روسيا، أو من تلويثه بالتَّأثيرات الدَّخيلة – أعني اللغة – قد أصبح بلا ريبٍ وبيلاً ومُلِحَّاً أكثر بكثيرٍ من الخوف الذي اختبرته بعد عقدين من ذلك، الخوف من أنَّني غير قادرٍ على الارتقاء بالنَّثر الذي أكتبه بالإنجليزيَّة إلى مستوىً يوازي مستواه في الرُّوسيَّة.[2]

يصف هذا المقطع من كتاب نابوكوف بشكلٍ جيِّدٍ صعوبةَ تخلِّي المرء عن لغته، وحقيقةَ أنَّ اللغة في الغربة تصير هي المكان الوحيد للانتماء. ولهذا السَّبب يرغب المرء في حمايتها من أيِّ «تأثيرٍ دخيلٍ عليها»، ذلك أنَّها الشَّيء الوحيد الذي استبقاه معه. وفي الوقت نفسه، فإنَّ هذا الغلاف الحافظ، كما يسمِّيه برودسكي، هذا الملاذ الذي من الصَّعب الحفاظ عليه في أرضٍ أجنبيَّةٍ، يحمل في داخله عالماً غالباً ما نكتشفه عندما نكون في الغربة، أو بالأحرى عالماً لا نكتشف أنَّنا ننتمي إليه إلَّا ونحن في الغربة. بعد عامٍ من نشر روايته «لوليتا» كتبَ نابوكوف تذييلاً عليها بعنوان «ملاحظاتٌ على كتابٍ يُدعى لوليتا». في هذا النَّصِّ، الذي بات يُدرَج اليوم في جميع إصدارات الرِّواية، يتحدَّث عن الصِّعاب التي اعترضَته في نشرها؛ ويختتم بالإشارة إلى «لغته الطَّبيعيَّة» التي تخلَّى عنها في سنة 1940:

إنَّ مأساتي الشَّخصيَّة التي لا يمكن، ولا ينبغي، أن تثير قلقَ أيِّ شخصٍ آخر، هي أنَّني اضطُررت إلى التَّخلِّي عن لغتي الطَّبيعيَّة، عن لغتي الرُّوسيَّة التي هي في غاية الثَّراء والطَّلاقة، والسَّهلة المأخذ بلا حدودٍ أو قيود، لأجل إنجليزيَّةٍ من الدَّرجة الثَّانية، خاليةٍ من كلِّ تلك اللَّوازم – المرآة الخادعة، والخلفيَّة المخمليَّة السَّوداء، وتداعيات الأفكار والأعراف المضمَرة – التي يمكن للسَّاحر المحلِّيِّ، فيما شِقَّا سترتِهِ المشقوقة الذَّيل يرفرفان، أن يستخدمها بطريقةٍ ساحرةٍ، ليتفوَّق بأسلوبه الخاصِّ على إرث الآباء.[3]

في السَّنوات الأولى التي قضيتها في إيطاليا، أتذكَّر أنَّ تعلُّقي بلغتي الأمِّ قد تعزَّز كما لم يحدث من قبل. لم أكن أريد أن أخسرها، وفعلت كلَّ ما في وُسعي لكي أحميها من أيِّ تلوُّثٍ، أو من أيِّ شكلٍ من أشكال الضَّعف، ذلك أنَّ البُعد، سواءٌ أحببنا ذلك أو لا، يجعلنا نفقد علاقاتنا، حتى العاطفيَّة منها أحياناً، ومع فقداننا لها نفقد أيضاً علاقتنا بلغتنا. حين كنت أذهب إلى الأرجنتين، ودائماً لفتراتٍ قصيرةٍ، كنت أعود ومعي صناديق مليئةٌ بكتبٍ باللغة الإسبانيَّة، أو كنت أجعل بعض الأهل والأصدقاء يرسلونها إليَّ من هناك. لقد بقيت سنواتٍ عديدةً لا أقرأ ولا أكتب إلَّا بلغتي الأم. تلك الأصوات، تلك الكلمات، كانت تحفر داخل الملاذ الوحيد الذي كنت أملِكُه، وجعلَتْه أوسع، وأكثر قابليَّةً للسُّكنى، في وقتٍ كنت أتخيَّله فيه ضيِّقاً جدَّاً وموحشاً. قرأت، على سبيل المثال، خوليو كورتاثار[4] الذي غادر الأرجنتين في عام 1951 قاصداً باريس للعيش فيها، واستمرَّ طوال حياته يكتب باللغة الإسبانيَّة (ترجمَ بُوْ، وديفو، وتشيسترتون، ويورسنار إلى الإسبانيَّة ولم يُقِم وزناً لعزلته الباريسيَّة). هكذا إلى أن بدأتُ، بعد ولادة ابني في عام 2000، بكتابة قصَّةٍ باللغة الإيطاليَّة، ضمَّنتها، فيما بعد، أوَّل كتابٍ لي أنشره بهذه اللغة، وهو «أعِدْ لي معطفي». اعتراني، وأنا أكتب باللغة الجديدة، شعورٌ بأنَّني فقدت كلَّ اليقين الذي كان لديَّ من قبل. لقد تركت الجسد الذي كان يحتويني لأرتدي شبحاً راح يتملَّص منِّي من كلِّ الجهات. كلُّ جملةٍ، وكلُّ كلمةٍ، كانت بالنِّسبة إليَّ موضع شكٍّ. ربَّما كان الأمر أنَّنا نشعر بنوعٍ من الخفَر الأوَّليِّ المثبِّط حين نبدأ الكتابة بلغةٍ ليست لغتنا. إنَّنا نتَّخذ مسافةً لم تكن موجودةً من قبل، فتلك كانت لغتنا ونحن كنَّا في داخلها. أمَّا الآن، وقد بدأنا نستخدم لغةً أخرى، فقد حان الوقت للدُّخول على رؤوس أصابعنا، كما لو أنَّنا لا نرغب في إثارة الكثير من الضَّجيج. إنَّنا ننقِّب في المعجم، ونترجم، ونقارن كلَّ شيءٍ، حتى نجد مفردةً تفتح لنا مَنفذاً، أو إمكانيَّة. نفقد الكثير من الأشياء حين نغيِّر لغتنا، ولكنَّنا في المقابل نكتشف أشياء أخرى. تتحدَّث جومبا لاهيري[5] في كتاب سيرتها الذَّاتيَّة، وعنوانه «بكلماتٍ أخرى»، عن صعوبة أن «نوجَدَ» في لغةٍ أخرى، حيث تشرح ماذا تعني هذه اللَّحظة، لحظةِ الانتقال من لغةٍ إلى أخرى، وفي حالتها هي من الإنجليزيَّة إلى الإيطاليَّة. ، تقول لنا جومبا لاهيري: «إنَّني أفتقد المسافة التي من شأنها أن تساعدني. ليس لديَّ سوى المسافة التي تَعوقني […]. بيد أنَّني، في النِّهاية، أكتب داخل خندق»[6]. فأن نوجَد في لغةٍ أخرى يعني أيضاً أن نكتب على الهوامش، من دون أن نكون قادرين أحياناً على الدُّخول إلى الطَّبقات السُّفليَّة أو الدَّاخليَّة، ولكن مع مرور الوقت تُكشَف الحجُب وتظهر الطَّيَّات الأكثر خفاءً. إنَّك، باختصارٍ، تمضي متحسِّساً طريقك كالعميان، فاقداً بعض القطع، وعاثراً على أخرى، على قطعٍ أخرى لا يمكنك دائماً أن تُبقيها في يدك، أو في جيبك، فحتى هذه ستفقدها. إنَّك تتقدَّم وتتقهقر باستمرار. العلاقة مع اللغة الجديدة إنَّما هي – إذا أردنا القول – علاقةٌ تكاد تكون إيروتيكيَّةً، تُقاس وتُفحَص باستمرارٍ، وفقاً لدرجة التَّقارب. في كتابها، «غرباء عن أنفسنا»، تروي جوليا كريستيفا شيئاً مشابهاً لهذا:

ألَّا يتكلَّم المرء لغته الأم. أن يحيا مع الإرنانات والدَّلالات المقتطَعة من الذَّاكرة الليليَّة للجسد، من كرى الطُّفولة الحلو والمرِّ. أن يحمل في داخله كمثل قبوٍ سرِّيٍّ، أو كمثل طفلٍ مُعاقٍ – محبوبٍ وعديم الجدوى – تلك اللغةَ، لغةَ ماضٍ يذوي، من دون أن يُخلي سبيله. إنَّكم تُنَمُّون مهارتكم مع أداةٍ أخرى، كَمَن يعبِّر عن نفسه بعلم الجبر أو بالكمان. يمكنكم أن تصبحوا ماهرين في استخدام تلك الأداة الجديدة التي تمنحكم، فضلاً عن ذلك، جسداً جديداً، مُصطنعاً بقدر ما هو متسامٍ – أو سامٍ كما يطيب للبعض أن يقول. تشعرون بأنَّ اللغة الجديدة هي قيامتكم: جلدٌ جديدٌ، وجنسٌ جديد. ولكنَّ الوهم ما يلبث أن يتمزَّق حين تستمعون، عبرَ شريطٍ مسجَّلٍ على سبيل المثال، إلى أنفسكم، وتسمعون نغمةَ صوتكم ترتدُّ إليكم كصوتٍ غريبٍ، خارجٍ من لا مكان، وأقرب إلى همهمةٍ قديمةٍ منه إلى رموز اليوم.[7]

إنَّ لغتنا دائماً ما تعود بأشكال أمومتها المختلفة. أحياناً نبتعد عنها دفاعاً عن أنفسنا، وأحياناً نقترب لئلَّا نفقدها. تغيير اللغة يقتضي ضمناً نوعاً من «المأساة الشَّخصيَّة». تجربة الهجرة تُخاض، ولكن من دون فقدان الماضي، لأنَّ الماضي، والحال هذه، يُزار ثانيةً في ضوء لغةٍ جديدة. عند هذه النُّقطة، يبدو لنا أنَّنا نمتلك حياةً متصدِّعةً، مقسومةً على لغتين أو أكثر؛ وكلُّ ذكرى من ذكرياتنا تتحدَّث بلغتها. 

____________

[1] Vladimir Ivanovich Dal (1801-1872) من أشهر المعجميِّين الرُّوس، وأحد الأعضاء المؤسِّسين للجمعيَّةِ الجغرافيَّة الرُّوسيَّة؛ (م).

[2] فلاديمير نابوكوف، تكلَّمي أيَّتها الذَّاكرة، سيرةٌ ذاتيَّةٌ مُنقَّحة، تحرير آنَّا رافِّتُّو وترجمة غويدو راني، ميلانو، منشورات أدِلْفي، 2010، ص287.

[3] فلاديمير نابوكوف، لوليتا، ترجمة جوليا أربوريو مِلَّا، ميلانو، منشورات موندادوري، 2007، ص418.

[4] Julio Florencio Cortázar Descotte (1914-1984) مفكِّرٌ، وكاتبٌ، ومترجمٌ أرجنتينيٌّ حاصلٌ على الجنسيَّة الفرنسيَّة. من أعماله: «جزيرة منتصف النَّهار وحكاياتٌ أخرى» (قصص)، و«الوقت الضَّائع» (قصص)، و«كتاب مانويل» (رواية)، و«الامتحان» (رواية)، و«الملوك» (مسرح)، و«إلَّا الشَّفق» (شِعر)؛ (م).

[5] Jhumpa Lahiri، كاتبةٌ أمريكيَّة من أصلٍ هنديٍّ، من مواليد لندن 1967. تكتب القصَّة القصيرة، والرِّواية، والمقالات النَّقديَّة، بالإنجليزيَّة، وحديثاً بالإيطاليَّة؛ (م).

[6] جومبا لاهيري، بكلماتٍ أخرى، بارْما، منشورات غواندا، 2015، ص15.

[7] جوليا كريستيفا، غرباء عن أنفسنا، ترجمة ألِسَّاندرو سيرَّا، ميلانو، منشورات فِلْترينِلِّي، 1990، ص20. 

الكتاب صادر عن دار فواصل – سوريا.

المصدر:

https://takweenkw.com/

تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

موقع ويب تم إنشاؤه بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

%d مدونون معجبون بهذه: