هناك سؤالٌ يطرح نفسه دائماً: في ظل الهيمنة أو الاحتلال الأجنبي على أي بلد، ومع سلب سيادته، من هي الجهة التي يمكن اعتبارها ممثلاً شرعياً لشعبه؟ يرى كثير من المفكرين والسياسيين والخبراء أن كل فرد أو مجموعة تقاوم الاحتلال أو الاستعمار أو الهيمنة الأجنبية تعبّر فعلياً عن إرادة الشعب، وتُعد قوة شرعية تمثّله. فالشرعية لا تنحصر في شخص أو حزب أو تيار بعينه، بل يمكن لمختلف الفئات والتيارات المنخرطة في مقاومة الاستعمار أن تمثل شعبها.
إن الخطاب الأحوازي، في عمومه، خطاب انفعالي أكثر مما هو عملي. وهذا الانفعال مفهوم، وهو نتيجة تراكمات الظلم والاضطهاد والاحتلال والقمع العسكري الذي مارسته السلطات الفارسية منذ سقوط السيادة العربية واحتلال عربستان عام 1925 وحتى يومنا هذا. ولا أحد يقف أو يرغب في الوقوف بوجه أمنيات الشعب العربي الأحوازي بالتخلص من الاحتلال والعبودية. وأنا شخصيًا لا أنصح أي أحوازي بالتخلي عن حلم التحرر من الهيمنة الأجنبية. لكن من الضروري أن نعيد مراجعة هذا الخطاب وتقييمه وفق المستجدات الداخلية والإقليمية والدولية على مختلف الأصعدة.
خلال استراحة غداء مزدحمة في الاجتماع السنوي للأكاديمية الأمريكية للدين عام 1991، رأيتُ زميلة دراسة سابقة تسرع نحوي. قبل سنوات طويلة، في جامعة شيكاغو، كنتُ قد التحقت مع مارشيا بدورة في معهد الدراسات الشرقية. وبدا عليها الانفعال وهي تقول: «جورون، يجب أن أحدثك؛ لقد وجدتُ لكِ المندائيين!»
قلتُ بدهشة: «هل تمزحين! أخبريني! هل لديك دقيقة؟»
أجابت بأنها تملك الوقت. وأوضحت مارشيا هيرمانسن، التي كانت حينها أستاذة في جامعة ولاية سان دييغو، أن حوالي أربعين مندائياً عراقياً يعيشون في سان دييغو وضواحيها. وأضافت أنها صارت صديقة لعائلة عمارة، واقترحت أن آتي للقائهم ولإلقاء محاضرة في قسمها في الخريف التالي.
وهكذا فعلت. كانت هذه أول مرة ألتقي فيها بالمندائيين في الولايات المتحدة. فقد جمعت عائلة عمارة، برئاسة لمياء عباس عمارة—الشاعرة المعروفة في العالم العربي والناشطة السياسية والثقافية السابقة—حوالي سبع عائلات مندائية على مأدبة طعام مشتركة. وكلما التفتُّ لأحادث شخصاً جديداً، وجدتُ أطباقاً شهية تظهر فجأة في صحني. كانت أمسية ودّية للغاية، مليئة بالحديث والتعلم والمتعة. لكن وقتي كان قصيراً آنذاك، واتضح أن عليّ العودة لزيارة أطول؛ وقد تحقق ذلك بعد عام، في ديسمبر 1993.
لندن- مركز دراسات عربستان الأحواز- في عام 1946، أصدرت السلطات البريطانية قرارًا بنفي الشيخ عبدالله بن خزعل من الكويت إلى مدينة عدن، التي كانت آنذاك مستعمرة بريطانية، وذلك بهدف منعه من قيادة أي تحرك سياسي أو ثورة أحوازية ضد الحكومة الإيرانية. وتُعد الوثيقة البريطانية التي تناولت هذا القرار من أبرز الشواهد على النظرة الاستعمارية المتعالية تجاه قضايا العرب عامةً، والأحوازيين على وجه الخصوص.
لندن- مركز دراسات عربستان الأحواز- حامد الكناني- شهدت الأسابيع الماضية جدلًا واسعًا، داخل الوطن وخارجه، حول بعض الروايات الشفهيّة المتداولة عن التاريخ الأحوازي. تحوّل النقاش إلى حالة من التوتر والانقسام، وصلت أحيانًا إلى حدّ التخوين والتحريض ضدّ من شاركوا في نقل تلك الروايات كما وصلتهم، من غير وعي أو تمحيص، فتعرضوا لموجةٍ من الانتقادات اللاذعة خلال تلك الفترة.
وفي خضمّ هذا الجدل، الذي تورطت فيه جزئيًا، راسلني أحد السياسيين الأحوازيين باحثًا عن الحقيقة. عندما ذكرتُ له أن الرواية الفارسية عن تاريخنا العربي في الأحواز مشوّهة عمدًا لدى كثيرٍ من الكتاب الإيرانيين، حتى من ينتمون إلى عرقيات غير فارسية، نصحني بأن أردّ الصاع صاعين — بحسب تعبيره — وأن أشوّه الأحداث التاريخية بالمثل، وأن لا أخشى لومة لائم لأنه سيقف بجانبي.
في الغالب تبدأ معاناة الأحوازيين مع سلطة الأجنبي منذ اليوم الأول في مقاعد الدراسة، حين يصطدم الطفل بلغة لا تشبه تلك التي تعلّمها في حضن أمّه وأهله. لكن معاناتي أنا شخصياً بدأت قبل ذلك بكثير، يوم كنت في الخامسة من عمري، وقبل أن أعرف معنى المدرسة أو سلطة الحرف الغريب.
كان ذلك صباح يوم صيفي حار في مدينة البسيتين، المدينة الصغيرة الواقعة غرب الأحواز، على مقربة من الحدود مع العراق. هناك، حيث يشق نهر الكرخة المدينة إلى شطرين، مكوّناً لوحة من الجمال والخصب والحنين، تبدأ الحكاية.
ذلك النهر العظيم، الكرخة، الذي يجري منذ آلاف السنين حاملاً معه أسرار الأرض ورائحة الطين وعبق النخيل، كان مصدر حياة وملاذاً لأهل المنطقة. مياهه العذبة تهمس للصيادين، وتغريهم بما تخبئه من أسماكٍ فضية تلمع تحت أشعة الشمس.