الثَّمانینيُّ العاشق/ بقلم: د. عباس الطائي

(الجزء الأول)

بعد فراق طال سنینَ عَکَّر مزاجَ الثلاثِ الأخیرةِ منها داءٌ عضالٌ قال عنه الأطباء إنه داءٌ نادرٌ قاتلٌ یُصیبُ واحدًا من کل مئةِ الفِ شخصٍ،  ویُسمَّی ” جالین بارَه”،  کان قد أصابه في الـ 15/ یولیو/ 2021،  فأودی به الی شلل  کامل مما جعله یرقدَ في المستشفی في العنایة المرکزة عشرین یوما ، وبعد أن أجرِي له غسیل دم،  کتب الله له الحیاة.

وبعد شهرین استطاع أن یمسک قلم الرصاص بأصابعه التي کانت قد أخذت حصتها من ذلک الفایروس القاتل،  فکان یکتب وهو مضطجع علی فراشه، فکانت القصیدة ” العصیة” أولی قصائده التي کتبها عن مرضه وعن عزمه علی القضاء علی ذلک المرض العضال،  فکان مطلعها:

– سأمضي الی مجدي وإن عاقني السُّقمُ / وأوقعني أرضًا ،  فـما خــانني الــعزمُ

– سأنهــض کالعنــقاء بین رَمـادها /   وأولدُ من رَحــــمِ المُـــحالُ ولا عـُقمُ…

– سأقضي علی الداء العضال بهمـتي/   وعــون إلـــهي والدواء هو الـــــعم…

ومما حققه وهو علی تلک الحال،  إتمام تصحیح وتحقیق وشرح النسخة الممخطوطة لدیوان الشاعرالأحوازي الکبیر السید جابر بن مشعل آل بو شوکة،  والتي کان قد أنجَز نصف العمل علیها قبل الإصابة بالمرض. وقد تم نشر الدیوان في دار الشویکي  في الدورق 2022.م.

ومرت الأیام وهو یترددعلی مراکز الریاضة الفیزیائیة بقدمین مشدودتین لا تریدان التطبع علی المشي،  لیعالج الضعف والتشنج في رجلیه،  لکن التحسن کان بطیئًا جدا،  أوشبه معدوم،  ورغم ذلک لم یستسلم ،  فراح یکثر التمشي والریاضة في البیت، والرجلان لا تزالان لا تقویان علی المشي إلا قلیلا. والأسوء من ذلک أن کثرة الریاضة سببت له انزلاقا في العمود الفقري، وتلک لعمري کانت معظلة شدیدة أخری، وقد امره الطبیب ألّا یتحرک کثیرا، وأن یُکثر من التمدد في الفراش. کما منعه منعا باتا من الخضوع الی عملیة علی عموده الفقري. 

کل هذا و منذ أن استطاع بعد ما یقارب نصف السنة أن یجلس في مکتبه ،  تابع العمل الأدبي فتناول النسخة المخطوطة من دیوان الشاعر الکبیر الملا محمد الماجود الخزرجي. فقام بتصحیحها وتنقیحها وشرحها والتقدیم لها،  وقد طبع الکتاب في دار الشویکي  في الدورق عام 2023.م

واستقرالمرض العضال فیه  علی ضعف في القوائم  ولا یزال موازیا لها. بید أن الداء لم یستطع أن یُفقِدَ هذا الثمانیني َّ العاشقَ الوالِهَ بحبِّ الدیارِ وساکنیها شوقَ اللقاء بهما، وکان یردد من قصیدته “العصیة “أبیاتا منها :

– أشُقُّ کـــــدودِ القـَزِّ شَرنَقتي إلی           شُمُوخي فَیَحدو بي الی موطني العزمُ

وکان طلابه ومحبوه یترددون علیه وهو في غربته في طهران،  ویستنهضونه علی الداء. وکثیر منهم من اقترح علیه إقامة حفل تکریم له في موطنه الأحواز،  فلم یستجب لهم ، لأنه لم یر ذلک ضروریا ، أو لأنه  لم یکن یری في قائمتیه نهضة طویلة توصله إلی الأحواز،  لکنه لم یکن لیفقد ذلک الأمل الملح شوقا لزیارة الدیار. وکان یردد قائلا:

– وذقت الأمرین الفراقَ وعلتي               وضِیقَ خِـناق واضطرارًا بغربتي

– ولکنني لم افقد الصبر ناظــرا               إلی فــرجٍ یأتي فیـکشف کـربتي

– وکنت أمنِّي النفسَ یوما زیارةً الی موطني الأحواز داري وجنتي

– وکنت أری تلک الزیارة َمعجزا           یُخفِّفُ عني الداءَ،  تنزاح ُ وحشتي

وکذلک الکثیر الکثیرمن الأحبة کانوا یتواصلون معه عبر أدوات التواصل سائلین عن أحواله داعین له بالشفاء  وذلک هوعین التکریم والتقدیر، وهو أساسا لم یکن یری التکریم ضروریا . لکنهم کانوا یصرون، وکان یردُّ علیهم بالتي هي أحسن، وحجته مزاجه المتعکر الذي لا غبارعلیه، لکنه ولا یخفی علیکم کان یتمنی أن یشعر بحرکة تساعده علی الإنطلاق من سجنه في بیته  الذي طال ما یقارب الثلاث سنوات.

وأخیراً وقبل ثلاثة أشهرتقریبا جاءه الشاعر الشاب شهاب ابو میثم البَلّاوي للمرة الثانیة و ذلک بعد اتصالات مکررة ،  وأعاد اقتراحه بإقامة حفل تکریم له،  فقال له : نذرا علي إذا أحسست  في قوائمی نهضة توصلني الی الأحواز، فسأتصل بک وسأخبرک.

وأخیرا وبعد شهرین من ذلک اللقاء الأخیر ودون أن یشعر بتحسن محسوس في جسمه ،  رفع الرجل الثمانیني السماعة واتصل  بالشاب شهاب البلّاوي وأخبره باستعداده لقبول الدعوة ،  لکنه اشترط أن یکون الحفل مصرحا بترخیص من الجهات الرسمیة المعنیّة ،  وکان یقصد من ذلک جس النبض و صک أمان له. ففرح ابو میثم  ورحب کثیرا.

ثم ذهب شهاب ابو میثم الی  الدکتورعلي العفراوي الذي عرف بدعمه لمثل هذه المبادرات الثقافیة والأدبیة في الأحواز، واستشارَه،  فرحب هو الآخر متفضلا وقال هذه مؤسستي ” مؤسسة ادبنا الثقافیة” ،  خذ شهادتها وتابع ترخیص إقامة الحفل،  فالدکتور له حق کبیر في أعناقنا. وراح ابو میثم یتابع التمهیدات القانونیة والأولیة فلاقی کثیرا من الصعوبات لکنه  حصل علی الترخیص في الأیام القلیلة قبیل موعد إقامة الحفل ،  مما سبب بعض الإرباک في نشر إعلان الدعوة و کیفیتها،  فالعدد والمکان محددان،  وکان یخشی إذا نشر دعوة عامة قد یتدفق الجمهور ویواجه

مشکلة في سعة القاعة في فندق هیام  التي لم یتجاوز عدد کراسیها 280 کرسیا.  ولهذا اضطر أن یکتب دعوة خاصة ویرسلها الی المدعویین. وکان موعد إقامة الحفل قد تعین ( 26/ ینایر/2024،  الساعة 2 مساء).

أما الرجل الثمانیني  فکان یشعر بالمجازفة  في موافقته علی الدعوة وکان یری أنه قد وضع نفسه أمام الأمرالواقع ،  فرجلاه قد تصلبت عضلا تهما  ولم تمتثل للشفاء وکان بالکاد یتمشی في البیت أو یذهب الی الطبیب ومرکز التأهیل الفیزیائي بمساعدة أحد افراد أسرته .

و بقي  حائرا،  کیف یکون ذهابه من طهران الی الأحواز؟! کیف یکون صعوده سلم الطائرة؟  وما ذا لو حصل تأخیر طویل في مطار طهران؟وهولا یزال یعاني  مشاکل صحیة ومزاجیة أخری…؟ وراح ینظر الی رجلَيه بتمعن …ثم خاطبهما: 

أَ رِجلَيَّ ،  أعینـــــاني    /    خذاني نحـــو أوطاني

 فإن الشوق للأوطـا..    /    نِ أضناني و أضواني

فقد هامت بها روحي    /    وحب الأرض أضناني…

ونهض من مکانه متمطیا ضاغطا علی رجلَیه مخاطبا متوسلا تارة وأخری متحمسا مشجعا إیاهما،  ثم خرج من البیت ونزل عبر المصعد الی المرأب (موقف السیارات)  وکان هناک سُلَّم صغیر یصل العمارة الی الباب ومنه الی العالم، ونظر الی مدارجه القلیلة وراح یکلم نفسه : هذا السلم هو سلم الطائرة ،  وعلیکما أیتها الرِّجلان أن تصعداه بکل الأحوال. لکنه في أولی حرکة منه أحس بوخز الوجع في العمود الفقريِ، فهو کما قلنا سالفا  إن کثرة الریاضة سببت له انزلاقا في العمود الفقري،  فقال في نفسه : لا بأس علیک یارَجُل،  إنه التَحَدّي بعینه، ولا تنس إنک وعدت جمهورک بهذا اللقاء ، ولا بد من الذهاب الی الوطن العزیزالأحواز، فهذه قد تکون فرصتک الأخیرة،  فإذا لم تنطلق هذه المرة،  فقد لا تری الوطن والأحبة بعد ذلک ،  وقریتک العزیزة ( ابوچلاچ / ابو کِلاک) التي قد دمرتها الحرب العراقیة – الإيرانیة عام 1980، ألا ترید أن تزورها وتلثم ثراها؟

 وأخیرا وبعد أیام من محاولات الصعود والنزول  مستعینا بمقبض السلم والعصا،  نجح في الصعود من ذلک السلم الصغیر في المرأب.

وفي یوم الخمیس  الـ25 من ینایر،  ذهب  الی مطار طهران في الساعة الثالثة صباحا ،  وکان یشعر بطاقة عجیبة  تدفعه بشوق. حتی أنه لما اقترح علیه طاقم الطائرة أن یُصعدوه بالمصعد المُعد لذوي العاهات ،  أبی بکل مکابرة ، وراح محاولا الصعود رافضا أیة مساعدة من المسافرین، فرکب الطائرة ، وتلک کانت المرحلة التي کان یظنها الأصعب في هذه الرحلة . سبحان الله، کانت تلک الرحلة أجمل واسهل رحلة قطعها عبرالطائرات طوال حیاته.

وفي مطار الأحواز کان الشاعر العزیز شهاب البلّاوي وابنه میرات والدکتور مهدي الساري وعدد آخرمن الأحوازیین الأعزاء  في استقباله  في مطار الأحواز الدولي. واستقلوا سیارة السید شهاب . ومما أثار دهشته أن میثما الصغیر ابن شهاب  کان یهتم بکل شيء کحمل الحقیبة و وضعها في صندوق السیارة رغم صغر سنه الذي لا یبدو علیه اکثر من اثني عشر عاما،  فقال في نفسه  مستحسنا : أجل هؤلاء هم أطفال الأحواز ،  أطفال رجال …

ودخلوا مدینة  الأحواز وکانت تکاد تشکو طول فراق وعذاب،  وکان یتمتم:

   أجل هذه الأحواز لکن تغیرت  / فلا الدار داري، قد تغیر جیرتي

وانطلقت السیارة  بهم قاصدین قریته ابوچلاچ مرورا بمدن الحمیدیة والخفاجیة والبسیتین ،  وکان یشعر بغربة لما حدث من تغیر في هذه المدن. وکان بعض الأصدقاء والأحبة یلتحقون بهم بسیاراتهم .وکان یردد ابیاتا مما کان قد قاله إثر ابتعاده من الأحواز:

ألـحب يكبـر و الديــار تَبـــاعـَدُ    /       كم من فـراقك يا ديارُ نُكابد ؟

هذي ربـوع أحبتـي قلبـــي بها     /      مستـودع مستأمن متـــــواجد

أهواز دار العز حيـــاك الحـــيا     /      و سقت رياضَ الحب منكِ روافد

الدّار داري و الـمـرابع ملعبـي     /     لي في ربوعـك يا ديار معاهـد

طهران ، ما لي فيك عـزم‌ٍإقامةٍ     /     مادام أهلي بالرحيـــل تناشـدوا

واجتازت السیارة  جسرنهرالبسیتین متجهة نحوالغرب حیث قریته ابوچلاچ حتی وصلوا الی ما کان یقدر أنها حدود القریة ،  کل شيء فیها  کان قد تغیر ولم یعد یعرف شیئا یدله علی قریته . وکم یبدو ذلک الموقف صعبا علی المرء ألّا یستطیع معرفة معالم داره التي نشأ وترعرع فیها. وکانت الذکریات تضغط علی ذاکرته ولکن بلا فائدة،  وفي لحظة تذکر شاعرَ ماقبل الإسلام زهیر بن أبي سُلمی إذ وقف علی آثار دیاره بعد عشرین عاما ،  فوجدها وراح قائلا:

       (وقفت بها من بعد عشرین حجة  /   فلأیًا عرفت الدار بعد توهم)

أما هو فلم یستطع معرفة داره، وراح یمد النظر شرقا وغربا فلم یر ما یساعده علی إیجاد آثار دارهم.

 فشاهد الجماعة المرافقون له ُعددا من المزارعین من بُعد فذهبوا نحوهم وسألوهم عن داره،  فلم یستطیعوا تبیانها رغم معرفتهم إیاه ،  ثم سألهم هوعن بستان نخیل بیت سید یاسین الذي کان علی مقربة من دارهم فأشاروا الی بضع نُخیلات بقین شواهد من ذلک البستان المکتظ بأنواع النخیل،  فذهبوا الیها ونهر ابوچلاچ

الذي کان ماؤه یبدو آسنا ،  یفصل بین النُخیلات وبینهم،  وراح الرجل الثمانیني یمسح بعینه البلیلتین المسافة بین النخیلات ودارهم،  فاستقر ناظره علی نخلة کانت قد انتزعت ظفائرها واسودت وانحنت قامتها الجمیلة،  سبحان الله أهکذا یعمل الفراق حتی بالأشجار؟! وراح الأصدقاء المرافقون یتعاطفون معه- شکر الله سعیهم- ولعل أکثرهم ثاکلو دیار مثله بشکل أو بآخر، أما الرجل الثمانیني فکان یدیرعینیه باحثا عن أماکن ذکریات طفولته وصباه ومراهقته وعنفوان شبابه . (نهایة الجزء الأول)

***

الثَّمانینيّ العاشق / بقلم: د. عباس الطائي  / الجزء الثاني :

وتوقف في مكان كان یظنه أنه قد يكون قريباً من دياره ،  فلم یتعرف على شيء منها و قد شدت نظره إليها نخلة كانت قد انحنت على مياه نهر الكرخة الذي كان يجري حزينا و كانت النخلة قد مالت على أمواجه بكل جسمها و أرخت ذوائب سعفها الأشعث على الأمواج كأنها تناجيها و تشكو إليها جفاءَ الأهل و فراق الأحبة وهناك تذكر قول الشاعر :

                              (مالت على النهر إذ جاش الخرير بها /  كأنـها أذُن مالـت لإصـغـاء)

و إذا لم یتعرف على الديار بعد ،  فقد عرف هذه الحقيقة ،  أن الديار هي أيضاً تحب أهلها و تعاني من فراقهم،  وراح یردد قول الشاعر:

      (و لي مذهب حبّ الديار لأهلها   /     و للناس فيـما يعشقـون مذاهب )

فقد عرف هذا من أحوال تلك النخلة و ما جرى عليها خلال تلك السنين . وهناک طلبَ من الأصدقاء أن یترکوه وحده… و في ما هوفيه من الألم والوحدة إذ سمع صوتا من خلفه  ینادیه بإسمه وإذا هو(فلان… ) وقد خرج من بطن الغابة التي تکاثفت اشجارها لکثرة السیول ،  وکان فلان  قد هام علی أثر حب لاعج انتهی به الی جنون العشاق، وکان قد ترک الأهل ولم یظهر حتی خلال الحرب ،  وما بعدها… کان شَعره قد تکاثف علیه وطالت لحیته وکانت ثیابه ممزقة،  و كان هو أيضاً شاعراً من شعراء الزّجل ،  فعرفه الرجل الثمانیني من صوته . فقال فلان: تدوِّر عن داركم ؟ قال : نعم ،  قال : کیف ماعرفت هذي النخلة ؟. قال الرجل الثمانیني : قلبي يحدثني، إنها هي . فقال فلان : نعم هاذي هي نخلتكم اللي على شاطيء النهر. فقال : لكنها قد تغيرت و شابت تماماً وسأله : ماذا جرى للمنازل ،  أما لها من أثر، قال فلان ،  عشرین  سنة والسيول اتغطیها وتهدم بیها ولا بقی اثر من البیوت وزرعوا بمکانها الشلب( الأرز) و الحنطه( القمح) مثل ما تشوف ؟! ثم أدار فلان وجهه الذي کان الشعر قد التف حوله  وراح  متمتما تاركا الرجل و حاله… وبقي الرجل الثمانیني لا یدري أ یفکر بحال هذا العاشق،  ثم قال  بصوت مسموع وهو یظن أنه یکلم نفسه:

                  ما أنت یا حب وما ذا الذي  / تفعله بالـعاشق المسکین ؟!

ثم التفت الی النخلة الثاکلة أهلها ،  والی الدار التي محیت رسومها ، فقال: سبحان الله مغير الأحوال، أهكذا أمست ديارنا أثراً بعد عين؟! و بعد أن يئس من العثور على آثار المنازل إلتفتُّ إلى النخلة ،  و إذا بها كأنها تخاطبه بقول عمرو بن معدي كرب الزبيدي :

               (ذهـب  الذيـن  أحبـهـم    /   و بقيتُ مثلَ السيف فردا )     

وهاجمته الذكريات من كل جانب ، وما انتبه إلا على صوت شهيقه خالطته الدموع ،  فتذكر بكاء الشعراء على الأطلال و تذكر؛ ” قفا نبك من ذکری حبیب ومنزل … “؛ فأخذ القلم لیكتب هذه القصيدة التي سمّاها ؛ ” و تذكرت قفا نبك “و منها هذه الأبيات :

كيف ينسـى الصبّ ما قـد ألفا    /     و  ديــاراً  هام  فيــها  شغـفا

أبعـدتنـي عنـــك يا دار الصّبـا    /    طائلات الظلـم جـورا و جفـــا  

جئـتك اليــوم  و  قلبـي طائــر    /    خافــق الـجنـح يغنّــي دنـفـا

يعــزف  الآلام   فــي  دقّـاتــه    /    ينـزف الأحلام لـحنا مـرهفـــا

أين ذاك العهد في هذي الربي     /   كيف ذاك الروض أمسى صفصفا

كل شبـر  فـيه  ذكـرى حلـوة      /   حفـــرت فـي ذِكرياتـي أحــرفا ….

والیوم وبعد خمسة و عشرين عاماً ،  یعود متکئا علی عصاه یساعده الأصدقاء تارکا بصماته تتیه مع الریاح أوتداعبها میاه نهرالکرخة لتأخذها ببط ء حزین  الی هور العظیم ،  عسی أن تروي ما تبقی من قصبه وأعشابه بعد أن جففته أیادي عشاق النفط …

  وراح الأصدقاء  یلتقطون له الصور ویسجلون الأفلام  في ذلک المشهد المثیر،  وهو لا یستطیع أن یخفي دموعه ، وکان تارة ینظر الی ما کان یمکن تسمیته دارًا،  وتارة ینظر الی النهر الذي کان قد تغیر تماما ، فراح مرددا على ضفافه:

هــا أنا يا نهرقـد عـُـدتُ بأشجـــاني إلیكْ

فافتـح الأحضان لي يانهرخذني في يديــكْ

أنــا ذاك الطفـل ذاك الصلُّ ذاك المُستهامْ

أنا ذاك السائـح السابح في جنح الظــلامْ

أنا ذاك الهائـم العائـم فــي جَفن الـــهوى

أنا ذاك الصّبُّ والقلب الــذي ذاق الجوى

أنا ذاك الطائـــر الحائر مـــا بين الغصـونْ

تــَـتَرامانـي سجـونٌ وتراميني الجفـــونْ

هــــا أنا جئتك يــــا نهـــر، ولكنّـي حطامْ

شفّني الوجد وطـول البعد أضناني الغـرامْ

هـــــذه يا نهـــر آهـــاتي ولوعات حياتي

هاتِ ما

عندك يا نهر،  من الأسرارهـات…

وبعد جولة حزینة  في محاني الدیار، عاد به الأصدقاء  معرجین علی أطلال دیار آل الدحیمي في قریتهم التي کانت تعرف بـ أم الدِّبس  وکانت عامرة بأهلها  لکن الحرب  التي اسلفنا القول عنها قد هجرتهم منها ،  فکان ذلک مشهدا حزینا آخر أیضا ،  غیر أن دور ام الدبس ، لم تُمحَ تماما  کما رأینا في قریة ابوچلاچ ، إذ بقي منها جدران طینیة تدل علیها. وکان أحد أبناءها  البررة السید حمود بن سید شایع قد أعد لهم غداء من السمک المشوي  والخبز الرقاق المحلي تحت شجرة سدر عظیمة ذات ساقین  کبیرین علی جذع واحد. وکان تسجیل الأفلام والتقاط الصور قائمین علی قدم وساق .

وبعد تناول طعام الغداء وقلیل من الإستجمام اتجهوا الی مدینة الأحواز معرجین نحو مرتفعات ” مِشداخ ” تجدیدا للعهد مع هذه المرتفعات التي شهدت ملحمةَ مقاومةٍ بطولیةٍ لمجموعة من ابطال الشعب الأحوازي بقیادة الشهید حمید رحمة الموسوي الملقب بسید فهد وسبعة من رفاقه الشهداء مع النظام البهلوي المقبور، هؤلاء الأبطال الذین  أعدمهم ذلک النظام الجائر في مدینة الخفاجیة  في فجرالحادي والثلاثین  من تموز عام 1972.م.

حفل التکریم:

 ولما کان یوم الغد  الجمعة 26 ینایر 2024،  الساعة الثانیة مساء ،  توافد المدعوون علی  القاعة  حتی اکتضت بالحاضرین وبدأ الحفل  تکریما  للرجل الثمانیني العاشق.

کانت أحاسیس الحاضرین  تنم عن حبهم وتقدیرهم لمن یقدم خدمة للشعب والوطن ، فذلک الإحتفاء إن دل علی شيء،  إنما یدل علی مدی وعي الشعب المتطلع الی غده المشرق بإذن الله.

وقد تمیزالحفل بما یمکن تسمیته بالمفاجئات،  إذ بعد قراءة القرآن الکریم ،  قداظلمت القاعة فجأة،  فخشي الحاضرون  انقطاع التیار الکهربائي الذي أحیانا یکون متوقعا لظروف لا مجال لذکرها . وإذا بشاشة القاعة تضاء ،  فیتبعها صوت الرچل الثمانیني منططلقا:

       كيف ينسـى الصبّ ما قـد ألفا         و  ديــاراً هام  فيــها  شغـفا

وإذا بالطفل میثم بن شهاب الذي اشار الیه الرجل الثمانیني في بدایة دخوله مطارالأحواز،  وهو في الفلم یلعب ویرکض في حقول النخل والزرع في قریة ابوچلاچ في أیامها العامرة، وکأنه یمثل دورطفولة الرجل الثمانیني،  ومن ثم یتغیر المشهد رویدا رویدا لیظهر الرجل الثمانیني متکئا علی عصاه یتمشی بثقل متسائلا بنظراته وحرکات یدیه،  وصوته یجلجل في القاعة حزینا إلی نهایة القصیدة حیث نهایة الفیلم.

والمفاجأة الأخری هي إماطة لثام شخص عن حقیقته بعد عشرین عاما. وقصتها أن الرجل الثمانیني قبل عشرین عاما کان قد ألقی بعض اشعاره في حفل . وبعد انفضاض الحفل راح الرجل لیخلد الی النوم وإذا بجرس الجوال  یرن معلنا وصول رسالة قصیرة،  فتح الرجل الجوال و إذا ببیت من الشعر الدارج الدارمي یقول:

               یل گِلِت مِنِّ الضیم دَلَّالي مالوم              عِد وانه اعد ونشوف یاهو اکثر اهموم

( ما معناه : یا من قلت إن فؤادي موجع من الهموم،  تعال لنعد هومنا أنا وأنت لنری من منا أکثر همّا) .

 فاهتز الرجل من هذا البیت الدارمي،  وحینها رد علیه ببیت دارمي قائلا:

                  یل بالهموم اترید تتسابگ اویاي /  تِحسب اهموم اترید یو جاري الماي

(ما معناه: یامن ترید أن تتسابق معي في عدد الهموم ، أترید أن تعد همومًا،  أم الماء الجاري؟)،  واستمر ذلک السجال بین الرجل وذلک الشخص الذي أبی أن یذکر اسمه طیلة العشرین عاما،  رغم اصرار الرجل  علی الکشف عن اسمه وهویته ، فسماه ،  ” المجهول” ،  وفي لیلة الحفل تذکَّر الإعلامي المحاور السید مهدي فاخر،  فسأل من الرجل الثمانیني عن قصة المجهول الذي کان قد تحدث عنها في أکثر من مکان،  فراح الرجل یشرح باختصار،  ثم اتجه السید مهدي فاخر نحو الجمهور وقال، وما أدرانا، لعل المجهول الآن في القاعة، ونحن جمیعا نرجوه أن یکشف عن نفسه إن کان حاضرا. وإذا بصوت من بین الحاضرین منطلقا: ها أنا بلحمي وشحمي. وإذا به الشاعر الزجلي المعروف ابو یوسف جمعة بن عبد الله الطرفي ،  وهو ابن خال الرجل الثمانیني. فقا له الرجل الثمانیني مازحا : لو کنت أعلم أنک أنت المجهول ، لما ساجلتک کل هذ الوقت ،  فضحک الحاضرون لما في العبارة من معان مضمرة.  وعاد الرجل الثمانیني  العاشق لشعبه ووطنه، الی مغتربه في طهران في نفس اللیلة مرددا:

(طهران ما لي فیک عزم إقامة / ما دام أهلي بالرحیل تناشدوا)

                                                                                                                                                               ( النهایة)

تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.

موقع ويب تم إنشاؤه بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑