المحمّرة… حين كانت عاصمة عربية قبل أن تطمسها طهران|بحث وتدوين: حامد الكناني

في أوائل القرن العشرين، لم تكن المحمّرة (التي تُعرف اليوم بـ”خرمشهر”) مجرد إمارة مزدهرة في أطراف الخليج العربي، بل كانت عاصمة فعلية لإقليم عربستان، الحاضنة لهوية عربية مستقلة سياسيًا وثقافيًا. حكمها الشيخ خزعل بن جابر آل مرداو، بحنكة سياسية جمعت بين الولاء الرمزي لإيران، والتحالف الاستراتيجي مع بريطانيا وأمراء الخليج العربي.

كانت علاقاته مع الإمبراطورية البريطانية مميزة، إلى الحد الذي كانت فيه سفن الهند البريطانية تطلق التحية المدفعية حين تمرّ بقصره المطل على نهر شط العرب، وهو ما أكدته دوروثي فان آيس، وهي من أبرز الشهود الأجانب على تلك المرحلة الذهبية، إذ قالت في مذكراتها:

“كانت سفن الهند البريطانية دائمًا تطلق التحية عندما تمرّ بقصره الواقع فوق المحمرة، أثناء طريقها صعودًا في نهر شط العرب إلى البصرة.”

لم تكن المحمرة منارة سياسية فحسب، بل ساهمت في تأسيس نواة التعليم الحديث في المنطقة. في مدرسة “الرجاء العالي” في البصرة، التي أسسها المبشر الأمريكي جون فان آيس عام 1912، أرسل الشيخ خزعل أبناءه الخمسة – “في نفس العمر تقريبًا ومن أمهات مختلفات” كما قالت دوروثي – للدراسة فيها، إلى جانب أبناء شيوخ عرب آخرين. تقول دوروثي:

“جاء عدد من أحفاد خزعل للدراسة في المدرسة مع أعمامهم الصغار… كما فعل عدد من الشيوخ الأقل شأنًا. شكّل هؤلاء الأولاد، مع معلمهم، نواة المدرسة الداخلية التي تطورت لاحقًا.”

بل إن النفوذ العربي في المدرسة كان كبيرًا إلى درجة أن عائلة النقشبندي النافذة، ممثلة بسيد طالب باشا، أرسلت أبناءها إليها، مما دفع بالسلطات العثمانية إلى تخفيف “تكتيكاتها المعطّلة”، كما تصف دوروثي.

في عام 1916، اجتمع ثلاثة من كبار قادة الخليج العربي في “دربار” رسمي بالكويت: الشيخ خزعل من المحمرة، الشيخ مبارك الصباح من الكويت، وعبد العزيز آل سعود من نجد. وقد شكل هذا الحدث النادر نواة التفاهم الخليجي في زمن كانت المنطقة فيه تُعاد صياغتها وفق خرائط الاستعمار البريطاني.

“في نوفمبر 1916، عُقد هناك دربار لشيوخ العرب… وكان من بين الحضور الشيخ مبارك من الكويت، والشيخ خزعل من المحمرة، وابن سعود من نجد… وأعلن الثلاثة التزامهم بالمعاهدات البريطانية.”

وقد كان الشيخ خزعل من المرشحين المحتملين لقيادة المملكة العراقية الحديثة، قبل أن يقع الاختيار على الملك فيصل الأول. لكن هذا المجد العربي لم يدم طويلًا. ففي عام 1925، شنّت طهران عملية عسكرية غادرة ضد عربستان الأحواز، أطاحت بالحكم العربي وضمّت عربستان قسرًا إلى الدولة الإيرانية الحديثة. لم يكن ذلك غزوًا جغرافيًا فقط، بل بداية لمشروع تفريس شامل ومحاولة طمس للهوية العربية.

أُخمدت اللغة العربية في المدارس، حُظرت الصحافة والنشاط الثقافي العربي، وتم تغيير اسم المحمرة إلى “خرمشهر”، لتبدأ بعدها قرنًا من التهجير والتجويع والإقصاء لسكانها الأصليين من العرب.

واليوم، بعد مرور قرن كامل على هذا الاحتلال، تحولت المحمّرة من مدينة مزدهرة إلى شبه مدينة وقرى مهجورة، كما تؤكد التقارير والشهادات الميدانية. العرب فيها يعانون من الفقر والبطالة والتهميش، بينما ينعم المستوطنون القادمون من العمق الإيراني بالوظائف والامتيازات والثروات.

“بعد مئة عام من الاحتلال، أصبحت المحمرة – التي تعرف اليوم باسم خرمشهر – أشبه بمدينة أشباح. بُنيت فوقها مظاهر تنموية سطحية لم يستفد منها العرب، الذين لا يزالون يعانون الفقر والتهميش والإقصاء.”

من بين الوثائق النادرة التي تحفظ هذه الحقبة، تأتي مذكرات دوروثي فان آيس لتؤرّخ بتفصيل إنساني ودقيق جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والتعليمية في عربستان والمحمّرة. من تربية أبناء الشيوخ، إلى استقبال الشيخ مبارك على يخته، إلى أحزان الحرب وضحاياها، ترسم دوروثي صورة صادقة لعالم عربي كان يتشكل بثقة، قبل أن يُهدم ببطء على يد قوى الاحتلال.

“كان الشيخ مبارك يستقبلنا رسميًا على يخته… وفي إحدى تلك المناسبات أهداني سلوقيًا صغيرًا (نوع من كلاب الصيد الشبيهة بالـGreyhound). وكان مالك الجرو قد تركه عنده للعناية به حتى يعود، لكنه لم يعد أبدًا.”

قامت السلطات الإيرانية بتغيير أسماء أكثر من مئتي مدينة وقرية ومنطقة في إقليم الأحواز، فاستبدلت أسماءها العربية بأخرى فارسية. فعلى سبيل المثال، أصبحت مدينة المحمّرة تُعرف اليوم باسم خرمشهر. والمفارقة أن التغطية الإعلامية العربية والدولية لاسم “خرمشهر” لا تتجاوز الإشارة إلى صاروخ باليستي إيراني يحمل هذا الاسم، ويُستحضر عادةً في سياق الخطاب العسكري والدمار وسفك الأرواح.

لكن المحمّرة ليست مجرد اسم يُطلق على صاروخ يُعلن عنه في أوقات الحرب، بل هي رمز لمعاناة شعب، وقضية إنسانية وعربية حيّة. إن التعتيم الإعلامي، والصمت العربي والدولي تجاه معاناة أهلها، لا يزيد الأمر إلا جرحًا، ويُطيل أمد الظلم المفروض على سكانها.لقد آن الأوان لأن تعود عربستان إلى خريطة الوعي السياسي العربي، لا كقضية حقوق فقط، بل كرمز حضاري يُجسّد ما يمكن أن تكون عليه المدن العربية حين تُدار بإرادة أبنائها.

تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.

موقع ويب تم إنشاؤه بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑