
مركز دراسات عربستان- حامد الكناني- سري – رقم ٧٧ لسنة ١٩٢٩– قنصلية صاحب الجلالة البريطانية – المحمّرة
٢٧ يوليو ١٩٢٩
في ظل الاضطرابات التي شهدتها الأحواز أواخر العشرينيات، أرسل القنصل البريطاني في المحمرة تقريراً سرياً إلى حكومته يشرح فيه تدهور الأوضاع القبلية والعلاقات بين العرب والسلطات الفارسية. وقد جاء في مستهل التقرير أنه، بالنظر إلى التطورات الأخيرة بين القبائل البختيارية في جوار الأحواز والتقارير المتكررة عن اضطرابات في صفوف القبائل العربية، فقد سعى القنصل للبقاء على اطلاع دائم بالأوضاع المحلية، إلا أن موقف الحكومة الفارسية المريب تجاه المسؤولين البريطانيين دفعه إلى تجنب التعامل مع أي عملاء محليين للحصول على المعلومات، وقد تمكن من جمع ما يلزم من خلال التعاون مع فرع المخابرات البريطانية في البصرة.
يُشير التقرير إلى أن حالة التململ العامة بين القبائل العربية تعود إلى كراهية الإدارة الفارسية وسياساتها التعسفية. ويؤكد العرب – كما ورد في الوثيقة – أن هدف الحكومة الفارسية هو محو القومية العربية تماماً. وقد استدلوا على ذلك بعدة إجراءات؛ منها تغيير اسم “عربستان” إلى “خوزستان”، وإقصاء العرب عن الوظائف العامة لصالح عرقيات أخرى، وفرض الزي البهلوي الجديد ومنع ارتداء اللباس العربي التقليدي. كما اشتكى الأهالي من جشع المسؤولين الفرس الصغار وظلمهم وغلاء المعيشة وازدياد الضرائب.
ويتابع القنصل في تقريره موضحاً أن السلطات الفارسية حاولت مؤخرًا تهدئة القبائل عبر زيارة الحاكم العسكري العام للأحواز في يوليو، حيث التقى بعدد من الشيوخ وتحدث عن إمكانية إعفائهم من الضرائب بسبب ضعف محصول التمر. كما أُبلغت القبائل بأن ارتداء القبعة البهلوية ليس إلزاميًا، لكن تلك الإجراءات لم تُجدِ نفعًا، إذ بقيت القبائل على رفضها واحتجاجها، وبلغ الأمر أن بعض قبائل المحمرة وعبادان رفضت دفع الضرائب تمامًا. وتطرّق التقرير إلى أن قبيلة كنانة في الحويزة اتخذت موقفاً متمرداً وانتقلت إلى نهر الكرخة، فيما أقدمت السلطات على نفي واعتقال عدد من شيوخ بني طرف ودريس إلى الأحواز وخرمآباد، وأُرسل بعضهم إلى طهران، بينما لجأ أحد زعمائهم إلى العراق.
ويشير القنصل إلى أن الحكومة الفارسية وزّعت بنادق على السكان في الفلاحية، واقترحت تجنيد عرب كحرّاس طرق، غير أن هذا الاقتراح أثار مخاوف كبيرة بين العرب، خاصة في ظل الطريقة التعسفية التي فرضت بها القوانين الجديدة الخاصة بالزي في المحمرة وعبادان، الأمر الذي زاد من نقمة القبائل واستيائها. ويرى القنصل أن العقبتين الأساسيتين أمام اندلاع ثورة عربية واسعة هما غياب قائد موحد وانعدام الدعم الخارجي الواضح.
“تُعلن جميع القبائل صداقة كبيرة تجاه البريطانيين، وعلى الرغم من أنشطة العديد من الدعاة الروس – وكثير منهم من العرب العاملين لدى القنصل الروسي في الأحواز – فإنهم جميعاً يؤكدون أن العدالة لا تتحقق إلا على يد الضباط البريطانيين وتحت حكم الحكومة البريطانية.”
كما نقل القنصل أن بعض القبائل أبدت استعدادها للانتفاض فوراً إذا حصلت على ضمان أو إشارة دعم من بريطانيا، مؤكداً أن البريطانيين لا يواجهون خطراً مباشراً على أرواحهم أو ممتلكاتهم، لكنه حذّر من أن الرعاع في المحمرة وعبادان قد يستغلون الفوضى لنهب البيوت الأوروبية، وأوصى بـ إرسال سفينة حربية بريطانية إلى عبادان وأخرى إلى المحمرة لحماية المصالح البريطانية وردع اللصوص.
ويضيف القنصل أنه لا يرى خطرًا وشيكًا لانتفاضة قبلية، إلا إذا أُغلق طريق خرمآباد وثار اللُّر ضد الحكومة، موضحاً أن إغلاق هذا الطريق سيعني عزل القوات الفارسية في الأحواز عن التعزيزات العسكرية، وإذا حدث ذلك، فإن القبائل ستنتفض فوراً. كما يختتم بالقول إن الوضع على الطريق ما زال غامضاً، إلا أن آخر التقارير تشير إلى انتشار أعمال النهب بين خرمآباد وبروجرد، ما يدل على ضعف السيطرة الفارسية واهتزاز الأمن الداخلي.
ويُفهم من مجمل التقرير أن السيطرة الفارسية على عربستان ظلت هشة وغير مقبولة من السكان، وأن القبائل العربية كانت في حالة احتقان سياسي وثقافي شديد نتيجة محاولات طمس الهوية العربية وتبديل الرموز القومية. أما بريطانيا، فمع إدراكها التام لهذه الأوضاع، فقد اكتفت بدور المراقب الحذر الذي يسعى فقط إلى ضمان استمرار مصالحه النفطية والتجارية في عبادان والمحمرة دون الانخراط في الصراع السياسي.
وهكذا تكشف هذه الوثيقة السرية الصادرة عن القنصلية البريطانية في المحمرة عام ١٩٢٩ عن مرحلة ما بعد إخضاع عربستان، حيث امتزج الرفض العربي بالسكوت البريطاني والتسلط الفارسي.

تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.