“الطفّاحية”.. ذكريات على ضفاف نهر الكرخة

في الغالب تبدأ معاناة الأحوازيين مع سلطة الأجنبي منذ اليوم الأول في مقاعد الدراسة، حين يصطدم الطفل بلغة لا تشبه تلك التي تعلّمها في حضن أمّه وأهله.
لكن معاناتي أنا شخصياً بدأت قبل ذلك بكثير، يوم كنت في الخامسة من عمري، وقبل أن أعرف معنى المدرسة أو سلطة الحرف الغريب.

كان ذلك صباح يوم صيفي حار في مدينة البسيتين، المدينة الصغيرة الواقعة غرب الأحواز، على مقربة من الحدود مع العراق. هناك، حيث يشق نهر الكرخة المدينة إلى شطرين، مكوّناً لوحة من الجمال والخصب والحنين، تبدأ الحكاية.

ذلك النهر العظيم، الكرخة، الذي يجري منذ آلاف السنين حاملاً معه أسرار الأرض ورائحة الطين وعبق النخيل، كان مصدر حياة وملاذاً لأهل المنطقة. مياهه العذبة تهمس للصيادين، وتغريهم بما تخبئه من أسماكٍ فضية تلمع تحت أشعة الشمس.

في ذلك الصباح، حملني شقيقي وصديقه ووضعاني وسط الطرّادة، وهي قارب صغير من الخشب، وشرعا في مدّ الشَّبك من جرفٍ إلى آخر عبر النهر. كان هذا النوع من الشباك يُعرف باسم الطفّاحية، لأنها تطفو على سطح الماء بفعل الكرات البلاستيكية الصغيرة أو قطع كرب النخيل المربوطة بأعلاها، بينما يُثقلها الرصاص من الأسفل لتبقى متوازنة وسط تيار الكرخة المتحرك المتجه نحو هور العظيم وهور الحويزة.

كانت العملية تبدأ من أمام مندي الصابئة بيت ساجت، وتمتد حتى المسانية المعروفة باسم بيت حجي عبدالله بن حجي أفليّح، حيث يبدأ جمع الشباك وإعادتها إلى القارب.
كان صوت الماء وهو يضرب أطراف الطرّادة موسيقى الطفولة الأولى، وصدى الريح بين النخيل خلفية لحلمٍ لا يدوم طويلاً.

بعد إتمام الجولة الأولى من الصيد، دفع شقيقي القارب بالمردي — وهي عصا طويلة تُستخدم لدفع القارب ضد التيار — عائدين إلى نقطة الانطلاق. وفي تلك اللحظة لمح شقيقي شختورة حكومية تشقّ الماء بسرعة، تصدر صوتاً مرعباً في صمت النهر.
كانت تلك الشختورة، بمحرّكها القوي، تُرهب الصيادين البسطاء، إذ يجلس فيها عسكري فارسي من الجندرمة ومعه موظف من “هيئة مكافحة الصيد الممنوع” — هيئة لا تعرف من حماية البيئة سوى اسمها، تستغل سلطتها لابتزاز الناس ومصادرة رزقهم.

اقترب القارب منا وطلبوا رخصة الصيد. وحين علموا أننا لا نحملها، بدأوا يفتشون عن الشباك. لم يعثروا عليها، لكنهم وجدوا بعض السمك الصغير. أخذوني، أنا الطفل، رهينة، وقال العسكري لشقيقي بلهجة قاسية:

“هذا الطفل يبقى معنا حتى تأتي بالشبك وتدفع الغرامة…مائة ريال.”

عاد شقيقي مسرعاً إلى المنزل، وجاء بعد حوالي ساعة حاملاً الشبك ومبلغ الغرامة. سلّمهم ما طلبوا، فتركوني وعدت إلى القارب.
لكن حين نظرت إلى معصم شقيقي، لم أجد ساعته الجميلة التي كان يعتز بها.
فهمت يومها، وأنا لم أزل طفلاً، أن النهر الذي يمنح الحياة قد يشهد أيضاً على الظلم، وأن جمال الكرخة لا يخفي مرارة الواقع.

ومع ذلك، ظل الكرخة في ذاكرتي رمزاً للصفاء والحرية، فماؤه العذب كان يغسل الخوف من قلوبنا، وأمواجه كانت تهمس لنا بأن الأرض — مهما امتدت عليها أيادٍ غريبة — ستظل تنبض بالعروبة والحياة.

تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.

موقع ويب تم إنشاؤه بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑