لا نواجه الكذب بالكذب… بل بالوثيقة والتوثيق

لندن- مركز دراسات عربستان الأحواز- حامد الكناني- شهدت الأسابيع الماضية جدلًا واسعًا، داخل الوطن وخارجه، حول بعض الروايات الشفهيّة المتداولة عن التاريخ الأحوازي. تحوّل النقاش إلى حالة من التوتر والانقسام، وصلت أحيانًا إلى حدّ التخوين والتحريض ضدّ من شاركوا في نقل تلك الروايات كما وصلتهم، من غير وعي أو تمحيص، فتعرضوا لموجةٍ من الانتقادات اللاذعة خلال تلك الفترة.

وفي خضمّ هذا الجدل، الذي تورطت فيه جزئيًا، راسلني أحد السياسيين الأحوازيين باحثًا عن الحقيقة. عندما ذكرتُ له أن الرواية الفارسية عن تاريخنا العربي في الأحواز مشوّهة عمدًا لدى كثيرٍ من الكتاب الإيرانيين، حتى من ينتمون إلى عرقيات غير فارسية، نصحني بأن أردّ الصاع صاعين — بحسب تعبيره — وأن أشوّه الأحداث التاريخية بالمثل، وأن لا أخشى لومة لائم لأنه سيقف بجانبي.

جاملتُ صديقي السياسي وأنهيتُ الدردشة وأنا متألّم من الوضع الذي أوصلنا إليه بعض الكتاب والمؤرخين الفُرس، الذين جعلوا من التضليل والتزوير التاريخي وسيلةً لخدمة السياسات الفارسية طيلة قرنٍ مضى.

هذا التضليل فُتحَ أمام جمهورٍ فارسي وغير فارسي واسع نافذةٌ على نصوصٍ مزورةٍ اقتنعوا بها كما لو كانت نصوصًا مُقدّسة، حتى صارَت تلك الروايات المفبركة مُحرِضةً على التعصّب ومعاديةً للعرب، لا سيّما الأحوازيين منهم.

تعرّض الأحوازيون لأبشع أنواع الاحتلال بدوافع استعماريةٍ في نهاية الربع الأوّل من القرن العشرين، حيث حوّلهم ذلك الاستعمار المزدوج إلى أحد أفقر شعوب المنطقة، وفرض تغييرات ديموغرافية واسعة لصالح العنصر الفارسي وحلفائه. وغصت البلاد بمستوطنين ارتشفوا من موائد أبناء الأحواز استولوا على أرزاقهم ونهبوا ثرواتهم، مدعومين بقوة من الحكومة المركزية الإيرانية.

وخلال بحثي في صفحات الإنترنت لفت انتباهي مقالٌ قيّم للكاتب المصري رأفت عبد الحميد محمد، عميد كلية الآداب بجامعة عين شمس، بعنوان: «التاريخ بين الرواية الشفهيّة والوثيقة التاريخية».

يميّز المقال بوضوح بين الرواية الشفهيّة والوثيقة التاريخية في منهج الدراسة التاريخية، مؤكّدًا أن الوثيقة تشكّل الركيزة الأساسية التي تمنح الباحث مصداقية وموضوعية، لأنها تقوم على الدليل المادي لا على السماع أو النقل.

ويشير إلى أن المؤرخ الحقيقي لا يبلغ جسر الصدق إلا إذا استند إلى وثائق صحيحة لم تمسّها يد التزييف، فالقيمة العلمية لأي دراسة تاريخية تتحدّد بمدى أصالة مصادرها.

يستشهد الكاتب بقول ابن خلدون في «المقدمة» الذي فرّق بين المؤرخ الباحث وكاتب التاريخ المتطفّل، منتقدًا من يكتفي بنقل الأخبار دون تحقيق أو تحليل؛ فالتاريخ عند ابن خلدون علم يقوم على النظر والتعليل لا على السرد المجرد. ويبيّن أيضًا أن الرواية الشفهيّة، مع تعدّد الرواة وتعاقبهم، تصبح عرضةً للإضافة والزخرفة فتتحول أحيانًا إلى فنٍّ قصصي يبتغي الإمتاع أكثر من التوثيق، وهو ما نبّه إليه ابن خلدون في إشاراته إلى المجالس الحافلة بالقصص والأمثال.

ويخلص الكاتب إلى أن التاريخ الوثائقي هو الأصدق والأبقى، وأن الاعتماد على الروايات دون نقد وتمحيص يؤدي إلى تحريف الحقائق وتضييع القيمة العلمية للتاريخ؛ فالمؤرخ الحقّ هو من يمحّص ويوازن وينقد، لا من يردّد ما يسمع دون وعي أو بصيرة.

تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.

موقع ويب تم إنشاؤه بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑