التحولات الإقليمية وحدود الخطاب الأحوازي بين الانفعال والواقعية

الثلاثاء‏، 18‏ تشرين الثاني‏، 2025

إن الخطاب الأحوازي، في عمومه، خطاب انفعالي أكثر مما هو عملي. وهذا الانفعال مفهوم، وهو نتيجة تراكمات الظلم والاضطهاد والاحتلال والقمع العسكري الذي مارسته السلطات الفارسية منذ سقوط السيادة العربية واحتلال عربستان عام 1925 وحتى يومنا هذا. ولا أحد يقف أو يرغب في الوقوف بوجه أمنيات الشعب العربي الأحوازي بالتخلص من الاحتلال والعبودية. وأنا شخصيًا لا أنصح أي أحوازي بالتخلي عن حلم التحرر من الهيمنة الأجنبية. لكن من الضروري أن نعيد مراجعة هذا الخطاب وتقييمه وفق المستجدات الداخلية والإقليمية والدولية على مختلف الأصعدة.

لكن علينا ان نعترف بان مع  بداية الألفية الثالثة، وبفعل التحولات الكبيرة في تكنولوجيا المعلومات، والتصنيع العسكري، وتغيّر المصالح الدولية والإقليمية، تغيّرت الكثير من قواعد النضال الانفعالي والتحرر التقليدي. ففي الماضي كانت حركات التحرر تعتمد خطًا واضحًا وصريحًا: إمّا أن تنجح في تحرير بلدها، أو تنتهي. أمّا الآن، وفي ظل هذه المتغيرات الدولية والإقليمية، أصبح الواقع يفرض خيارات مختلفة تمامًا.

من الناحية العسكرية أيضًا، كانت السلطات في الأنظمة المركزية تمتلك قدرات معروفة ومحدودة، وكانت حركات التحرر تلجأ عادةً إلى مناطق نائية، أو جبال وعرة، أو غابات وأهوار ومستنقعات وصحارى. وكانت ملاحقة الثوار في تلك الظروف مكلفة وصعبة بالنسبة للسلطات المركزية.

على سبيل المثال، في تركيا، يقود حزب العمال الكردستاني (PKK) بقيادة عبد الله أوجلان نضالًا طويلًا من أجل حقوق الأكراد. ولكن عندما تعثّر تحقيق هذه الحقوق مقارنةً بما حصل عليه أكراد شمال العراق، بدأ الحزب بتسليم أسلحته. والسبب هو تغيّر الجغرافيا السياسية، والظروف الإقليمية والدولية، وتحوّل معادلات القوة في صراعه مع الجيش التركي. ففي السابق، كانت القوات التركية تحتاج إلى تحريك وحدات وآليات ضخمة لملاحقة مقاتلي الحزب في جبال قنديل والمناطق الوعرة. أمّا اليوم، ومع ظهور الطائرات المسيّرة، أصبح الجيش التركي قادرًا على استهداف القواعد الجبلية المحصّنة من مسافات بعيدة وبتكلفة أقل، ما أفقد الحزب ميزته الطبيعية السابقة. ولذلك لجأ الحزب إلى نوع من التسوية مع الحكومة المركزية التركية.

أما في العراق، فعندما أراد السيد مسعود بارزاني إجراء استفتاء حول استقلال إقليم كردستان، اصطدم ذلك برفض دولي وإقليمي واضح. ورغم إجراء الاستفتاء، فإن الأطراف الكردية نصحت بارزاني بالابتعاد عن الواجهة السياسية خشية فقدان المكاسب التي تحققت بعد أخطاء النظام العراقي، خصوصًا عقب تداعيات احتلال الكويت عام 1990.

ولدينا نموذج آخر في سوريا. فبعد أكثر من عشر سنوات من نضال الشعب السوري، خرج نحو 90% من الأراضي السورية من سيطرة النظام المركزي. لكن بدعم إقليمي غير مباشر، وبموافقة دولية، استعاد النظام هذه الأراضي، وعادت إلى سلطة الحكومة المركزية في إطار النظام الحالي. وعندما طالبت بعض الأطراف العلوية في الساحل السوري بإقامة إقليم مستقل، اصطدمت هذه المطالب بالمصالح الدولية والإقليمية، فتلاشت، ولم يعد لها حضور إعلامي أو سياسي.

ما أودّ قوله هو أنّ المصالح الدولية والإقليمية، إضافةً إلى التفوّق التكنولوجي العسكري الذي تمتلكه الأنظمة الحاكمة، باتت جميعها عوامل غيّرت قواعد اللعبة بشكل جذري. وفي ما يتعلّق بالأحواز، فإنّ الوضع أكثر حساسية؛ إذ يوجد توافق دولي وإقليمي على دعم الحكومة المركزية في منع أي تيار تحرّري. وتشير تطورات العقود الماضية إلى أنّ تفكيك إيران ليس خيارًا مطروحًا لدى الدول الغربية في الوقت الراهن، رغم أنّه قد يُطرح مستقبلًا في ظروف مختلفة. كما أنّ هذا الخيار مرفوض حاليًا من الدول الإقليمية المحيطة بإيران، التي ترى أن أي تفكك في دولة من دول المنطقة قد ينعكس عليها لاحقًا، ولذلك ترفض هذا المسار رفضًا قاطعًا.

فمنذ عام 1925 وحتى اليوم، شهدت الأحواز عشرات الانتفاضات التي قمعت غالبها السلطات الإيرانية بقوة ودموية وفي ظل غياب شبه تام لأي تغطية إعلامية آنذاك، كما لم تتجاوب الحكومات الفارسية—سواء في العهد الملكي في زمن رضا شاه ومحمد رضا شاه أو في العهد الإسلامي في زمن الخميني وخامنئي—مع المطالب القومية والوطنية العادلة للشعب العربي الأحوازي. وهذه الحكومات تعاملت دائمًا مع الإقليم بمنطق أمني صارم، كما صرّح بذلك الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد صراحةً.

وعند مراجعة الأحداث، في العقود الأخيرة، نجد أن الكثير من غير العرب الذين استقروا في الإقليم استفادوا من هذه النظرة الأمنية التي تتعامل بها طهران مع الشعب العربي الأحوازي وحقوقه القومية. كما أن معاهدة أرضروم الثانية عام 1847 فرضت تبعية اسمية لعربستان للتاج القاجاري، وليس للدولة الفارسية بصورتها الحديثة، وبقيت عربستان تتمتع باستقلال داخلي لا مثيل له في المنطقة، في وقت كانت فيه معظم البلاد العربية مجرد ولايات عثمانية. وتشير الخرائط والوثائق التاريخية إلى أن وضع الأحواز كان شبيهًا بوضع كندا وأستراليا ونيوزيلندا مع التاج البريطاني: ارتباط اسمي بالتاج وليس اندماجًا في جغرافيا الدولة.

لكن هذا الوضع تغيّر بعد إسقاط الاتفاقات والمعاهدات بشكل أحادي من قبل رضا خان والتيار القومي الفارسي، ثم اختطاف أمير الأحواز الشيخ خزعل بن جابر آل كعبي وولي عهده، ومنح السلطة لأقليات غير عربية أصبحت صاحبة النفوذ والمصلحة في الإقليم. ومع تراكم مصالحها، عملت هذه الجماعات على توسيع الفجوة بين العرب وبين الحكومة المركزية في طهران، وكان أفضل وسيلة لهذا التوسيع هي تحويل الشعب العربي الأحوازي إلى “تهديد أمني” لوحدة إيران. وهنا اجتمعت مصالح الدولة الإيرانية مع مصالح القوى الإقليمية والدولية، بل ومع مصالح تلك الأقليات، فبدأت بدعم متطرفين أو دفع بعض الجماعات نحو العسكرة بشكل غير مباشر، بهدف إيجاد الذرائع لقمع أي تطلعات عربية في الإقليم.

وللتذكير، ففي أعقاب الثورة الإيرانية عام 1979، كانت هناك ثلاثة أشهر تُسمّى “ربيع الثورة” اتسمت بانفتاح نسبي، سمح للنخب الأحوازية بالتحرك وتوعية المجتمع والمطالبة بالحكم الذاتي، وظهرت بوادر لنهضة ثقافية. لكن القوى المستفيدة من غياب السيادة العربية حرّضت ودَفعت نحو التصادم، كما قامت جهات أخرى بتفخيخ وتفجير خلق الذرائع، وانتهى ذلك بمجازر مثل “الأربعاء السوداء”.

وفي عام 2005، ومع صعود التيار الإصلاحي في إيران واتساع الوعي القومي العربي، برز صوت الأحوازيين مجددًا، وحقّق العرب حضورًا حقيقيًا في المجالس المنتخبة، مثل المجلس البلدي في الأحواز. لكن هذا الواقع اصطدم بمصالح القوى المتسيدة، التي حرّضت أجهزة الأمن والاستخبارات—التي كانت بمعظمها بيد غير العرب—على قمع الحركة الأحوازية، مستفيدة من بعض الأعمال الانفعالية أو التفجيرات التي نفذتها تيارات متطرفة أو تقليدية داخل الساحة الأحوازية، فاستُخدمت كذريعة لإخماد الصوت العربي وتوسيع الفجوة مجددًا بين العرب والحكومة المركزية.

وخلال فترة وجيزة سبقت الحرب الإيرانية – العراقية (1980-1900)، قُتل أو صُفّي معظم المشاركين في أحداث المحمرة، والباقون هُجّروا أو لجؤوا إلى العراق ثم المنافي الأخرى. واليوم، وبعد مرور أكثر من عقدين، يتضح أن الغالبية الساحقة ممن دعموا حركة الوفاق، أو تبنّوا خطاب الإصلاح، يعيشون الآن في المنافي، يعانون الغربة والوحدة، وتتحمل أسرهم أيضًا ثقل هذه المعاناة.

وفي اللحظة الراهنة، وبعد إقدام الشهيد أحمد البالدي (رحمه الله) على إضرام النار في جسده، ظهر شارع أحوازي متعاطف ومتحرك سلميًا. ولكن في الأيام أو الأسابيع المقبلة، قد تحاول جهات معينة عسكرة هذا الحراك السلمي، ما سيمنح القوى المتسيدة (من غير العرب) الذريعة لتوسيع الفجوة مجددًا وتصنيف العرب كتهديد للأمن القومي الإيراني ووحدة التراب الإيراني، ومن ثم الحصول—كعادتها—على الضوء الأخضر للقمع من الدول الإقليمية والدولية.

حين كنت أشارك بعض التيارات السياسية في وقفاتها الاحتجاجية ومظاهراتها أمام البرلمان الأوروبي والبرلمان البريطاني ومقر رئاسة الوزراء في داون ستريت رقم 10 في لندن، وكذلك أمام مبنى السفارة الإيرانية، كنت أرى بأمّ عيني مظاهر الانفعال وأساليب النضال التقليدي. فقد كانت مكبّرات الصوت تبث أحيانًا أناشيد عاطفية قد تصلح لتحريك الشارع داخل الأحواز أو في المناطق المهمّشة، لكنها تتحول في أوروبا وبريطانيا إلى رسالة سياسية معاكسة تمامًا، وتكشف عن فقر كبير في الوعي السياسي. فمحتوى تلك الأناشيد — وإن بدا لنا وطنيًا — قد يقلب صورة الظالم والمظلوم في نظر مراكز صنع القرار في الغرب.

وتبلغ المفارقة ذروتها حين أرى أحد القياديين يعرض على المارة أحذية ونعالًا بلاستيكية مطبوعًا عليها صور رموز طائفية من العراق واليمن ولبنان. عندها أتساءل: ما علاقتنا بالصراعات الطائفية في العراق واليمن ولبنان؟ وهل قضيتنا قضية أحوازية وطنية أم قضية طائفية؟ وكيف يمكن لمثل هذه الرموز أن تخدم نضال شعبٍ يسعى لانتزاع اعتراف دولي بعدالة قضيته؟

ومع كل ذلك، نستمر في التساؤل: لماذا لا نحصل على دعم غربي لقضيتنا رغم عدالتها؟

مركز دراسات عربستان الأحواز- حامد الكناني

تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.

موقع ويب تم إنشاؤه بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑