المسرح العربي في الأحواز: سردية الحرمان والتهميش والمقاومة الثقافية في إقليم الثروات المنهوبة/ حامد الكناني

لا يمكن مقاربة تجربة المسرح العربي في الأحواز بوصفها ظاهرة فنية محضة أو نشاطًا ثقافيًا معزولًا عن شروطه التاريخية والسياسية، بل هي نتاج مباشر لواقع مركّب من الحرمان الشامل، والتهميش المنهجي، والفقر المدقع، في إقليم يُعدّ من أغنى أقاليم المنطقة بالثروات الطبيعية، وأفقرها من حيث العدالة والتنمية والحقوق الثقافية. ففي الأحواز، حيث النفط والمياه والغاز والزراعة، يعيش الإنسان العربي على هامش الدولة، محرومًا من أبسط مقومات العيش الكريم، ومجردًا من حقه الطبيعي في لغته وثقافته وذاكرته الجمعية.

في هذا السياق القاسي، يصبح المسرح العربي فعلًا وجوديًا قبل أن يكون فعلًا جماليًا؛ ممارسة مقاومة ناعمة في وجه سياسات التفريس، والتغيير الديموغرافي، والإقصاء اللغوي، ومحاولات الطمس المنهجي للهوية العربية. إن الخشبة الأحوازية ليست مساحة ترف أو استعراض فني، بل ساحة اعتراف، وفضاء مساءلة، وأداة لحفظ ما تبقى من الذاكرة الجماعية لشعب يُراد له أن ينسى ذاته.

وتبرز مسرحيتا «زورق خارون» و«عندما تنتهي تسقط» كنموذجين دالّين على هذا الدور المركّب للمسرح الأحوازي، حيث تلتقي الجماليات السيميائية مع الوعي الاجتماعي والسياسي، ويتحول النص والعرض إلى خطاب أخلاقي وإنساني موجّه ضد القهر، لا من موقع الوعظ، بل من موقع الكشف والتعرية.

في «زورق خارون»، لا يُستدعى نهر كارون بوصفه فضاءً جغرافيًا فحسب، بل كذاكرة مثقلة بالخراب والخذلان. فالمسرحية، التي تبدو في ظاهرها حكاية غرق، تتحول إلى محاكمة أخلاقية لمنظومة قيم انهارت تحت ضغط الأنانية والظلم والصمت. الشخصيات ليست أفرادًا بقدر ما هي علامات دلالية تعكس واقعًا أوسع: العرافة تمثل الضمير الجمعي الذي يحاول استعادة الماضي المسروق، والرجل الأول يجسد تبرير الخيانة باسم المصلحة أو العاطفة، وحورية البحر تتحول إلى قيمة مطلقة تفضح زيف الخطاب الأخلاقي، أما الطفلة الغارقة فهي الحقيقة الأحوازية نفسها؛ بريئة، مسحوقة، ومؤجلة العدالة.

هذا البعد الرمزي لا ينفصل عن الواقع الاجتماعي للأحوازيين، حيث يتجاور الفقر المدقع مع الثروة المنهوبة، ويُدفع الإنسان العربي إلى هامش الاقتصاد والسياسة، بينما تُستثمر أرضه ومياهه لصالح المركز. وهنا يغدو المسرح شكلًا من أشكال المقاومة الأخلاقية، يذكّر المتلقي بأن الصمت شراكة في الجريمة، وأن التواطؤ يبدأ حين تُبرَّر الخسارة بوصفها قدرًا.

وعلى مستوى العرض، يكتسب تقديم «زورق خارون» باللغة العربية في قلب الأحواز دلالة مضاعفة. فاللغة هنا ليست أداة فنية فقط، بل موقف سياسي وثقافي في مواجهة سياسات الإقصاء التي تسعى إلى تحويل العربية إلى لغة منزلية هامشية، منزوعـة الحضور في الفضاء العام. إن الإخراج المقتصد، والصمت الدلالي، والاعتماد على الإيحاء بدل الخطاب المباشر، كلها خيارات جمالية تنسجم مع واقع القمع، حيث يصبح التلميح أكثر أمانًا وعمقًا من التصريح.

أما مسرحية «عندما تنتهي تسقط»، فتفتح المسرح الأحوازي على أفق كوني، من خلال تناولها علاقة الإنسان بالبيئة وجرائمه بحق الأرض. غير أن هذا الخطاب البيئي لا يمكن فصله عن الواقع الأحوازي ذاته، حيث يُدمَّر النهر، وتُجفف الأهوار، وتُلوَّث الأرض باسم التنمية، بينما يُقصى أصحابها الأصليون. ومن هنا، فإن الهمّ الكوني في المسرحية يمرّ عبر تجربة محلية شديدة الخصوصية، تجعل من الأحواز نموذجًا مكثفًا لعلاقة السلطة بالعالم والطبيعة والإنسان.

وتكتسب هذه التجربة بعدًا إضافيًا حين نقارن واقع المسرح والثقافة في الأحواز بإمكانات نظرائه في دول الخليج العربي. فالشعب الأحوازي، الذي يمتلك طاقات إبداعية واضحة، يُنتج مسرحه في ظروف شبه معدومة: غياب الدعم المؤسسي، انعدام البنية التحتية الثقافية، التضييق السياسي، والفقر الاقتصادي. في المقابل، تعمل المؤسسات الثقافية في الخليج ضمن فضاءات مفتوحة، وبدعم مالي وإعلامي كبير، وبإمكانات تقنية وتعليمية واسعة. ومع ذلك، ينجح المسرح الأحوازي، رغم كل هذا الحرمان، في إنتاج خطاب عميق، صادق، وغير استهلاكي، يستمد قوته من المعاناة لا من الوفرة.

وهنا تكمن المفارقة الكبرى: شعب يعيش فوق بحار من النفط والمياه، لكنه محروم من أبسط حقوقه الثقافية، في حين تُنفق ثروات الإقليم على مشاريع لا تعود عليه، ويُترك مثقفه وفنانه ليقاوم وحيدًا، بإمكانات شبه معدومة، من أجل الحفاظ على لغته وذاكرته. إن هذه المفارقة تجعل من كل عمل مسرحي عربي في الأحواز فعل تحدٍّ، ومن كل عرض ناجح انتصارًا رمزيًا على سياسات الطمس.

إن المسرح العربي في الأحواز، كما تتجلى تجربته في «زورق خارون» و«عندما تنتهي تسقط»، ليس مجرد فن، بل وثيقة مقاومة، وصرخة وعي، ومحاولة مستمرة لقول: نحن هنا. هو مسرح يولد من الفقر، ويتغذى من الحرمان، لكنه يرفض أن يكون هامشيًا أو تابعًا. إنه زورق هشّ في نهر مثقل بالخذلان، لكنه يواصل العبور، حاملًا أسئلة الهوية، وكرامة الإنسان، وإيمانًا عميقًا بأن الثقافة، مهما حوصرت، تبقى آخر خطوط الدفاع عن الوجود.

تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.

موقع ويب تم إنشاؤه بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑