
مركز دراسات عربستان الأحواز- بحث وتدوين: حامد الكناني– يتناول كتاب «آسیبشناسی مسائل قومی در ایران؛ مطالعه موردی عربهای ساکن شهر اهواز» (1390هـ.ش)، الذي أعدّه عبدالرّضا نواح، نورالله قيصري، وسيد مجتبي تقوي نسب، قضية الهوية القومية والصراع الإثني في إيران من خلال دراسة تطبيقية على الشعب العربي الأحوازي، أحد أبرز الشعوب غير الفارسية في البلاد. يسعى الكتاب إلى تفسير أسباب ما يسميه بـ”التوترات” بين الهوية القومية العربية والهوية الوطنية الإيرانية (الفارسية)، معتمدًا منهجًا كميًا يقوم على استبيانات وشهادات من المجتمع العربي في الأحواز.
مع ذلك، يكشف عنوان الكتاب نفسه عن تحيزات أيديولوجية وقومية فارسية واضحة، إذ يصف العرب الأحوازيين بأنهم مجرد “عرب يقيمون في مدينة الأحواز”. في المقابل، تؤكد جميع الدلائل التاريخية أن الشعب العربي الأحوازي هو صاحب الأرض، ليس فقط في مدينة الأحواز، بل في جميع مدن عربستان، ويشكّل الأغلبية الساحقة في هذا الإقليم العربي.
كما تُظهر مقدمة الكتاب ذاتها هذه التحيزات الأيديولوجية، التي تتماهى مع السردية الرسمية الإيرانية المقدمة لإيران كدولة متماسكة ومجتمع متجانس، متجاهلة التاريخ الطويل من القمع والاستعمار الداخلي الذي تعرّض له العرب في الأحواز لأكثر من قرن. وينطلق هذا التحليل النقدي من منظور نظري وتاريخي ومنهجي، كاشفًا مواطن الخلل في معالجة الكتاب لهذه الإشكالية، ومبرزًا فشل الدولة القومية الإيرانية في تحقيق اندماج حقيقي لعرب الأحواز، والحاجة إلى قراءة بديلة تأخذ في الاعتبار أبعاد الاستعمار الداخلي وحق الشعوب الأصلية في تقرير المصير.
الإطار النظري: مفهوم الهوية والوحدة الوطنية بين المركز والهامش
تُبنى المقدمة على مفهوم مفاده أن إيران تشبه “سجادة فارسية” جميلة، نسجتها “جماعات عرقية متنوعة” بتكامل وتعايش. هذه الصورة تنطوي على استدعاء ذكي لمفهوم الوحدة الوطنية القائمة على التنوع الثقافي، لكنها في الوقت ذاته تعزز هيمنة المجموعة الفارسية بوصفها “النسّاج” أو الصانع الرئيس لهذه الوحدة، بينما تصير المجموعات العرقية الأخرى ألوانًا فرعية تزيّن النسيج.
يرتكز هذا المنظور على فرضية أساسية وهي أن الهوية الوطنية الإيرانية قائمة على أساس التوافق الطوعي بين الأعراق، وأن أي توتر أو انقسامات تنشأ من “مشكلات داخلية” لدى الأقليات نفسها، وليس نتيجة لصراعات على السلطة أو العدالة. في المقابل، تقترح الأدبيات النقدية لما بعد الاستعمار ومن دراسات الشعوب الأصلية أن هذه الرؤية تختزل الصراع إلى مجرد “أزمة هوية”، وتتجاهل الفعل الاستعماري الداخلي الذي يمارس السيطرة والهيمنة الثقافية والسياسية على الأقليات.
وبالتالي، فإن الحديث عن “رفض العصبية القبلية” في الإسلام، كما تشير المقدمة، يتم استثماره بطريقة انتقائية لتجريم المطالب القومية العربية، بينما يغضّ النظر عن العصبية القومية الفارسية التي تسعى إلى فرض نموذج أحادي الهوية على مجمل الشعب الإيراني. هنا يتمّ إنتاج خطاب قومي مركزي يُبرّر استمرار الهيمنة والتمييز، ويغفل أن الهوية الوطنية الحقيقية لا يمكن أن تتأسس إلا على الاعتراف بالحقوق الجماعية والتعددية الديمقراطية.
نقد المنهجية: حدود التفسير الكمي وإشكالية التمثيل
تعتمد الدراسة على منهج كمي تمثّل في استبيان متدرج شمل 384 شخصًا من عرب الأحواز في مدينة الأحواز، مع عينة تمهيدية من 50 شخصًا لاختبار أدوات البحث. تبدو هذه العينة مناسبة إحصائيًا لقياس الاتجاهات العامة، ولكنها تعاني من عدة نقائص جوهرية تحد من جدوى النتائج ودقتها في تفسير واقع الهوية القومية.
أولاً: إقصاء السياق التاريخي والسياسي
المنهج الكمي، بتعريفه التجريدي، يعزل النتائج عن سياقها السياسي والتاريخي. فمشكلات الهوية التي تعالجها الدراسة لا يمكن فهمها بمعزل عن الاستعمار الداخلي الذي مارسته الدولة الإيرانية تجاه الأحواز منذ عام 1925، بدءًا من إلغاء الحكم العربي التقليدي، مرورًا بتهميش السكان العرب اقتصاديًا وسياسيًا، وانتهاءً بالقمع الثقافي واللغوي.
النتيجة التي توصلت إليها الدراسة بأن “الحرمان السياسي والاقتصادي يفسر 58% من التباين في الهوية القومية” تظل تفسيرًا ناقصًا إذا لم تُرتبط مباشرة بالسياسات الاستعمارية التي حرمت العرب من المشاركة الحقيقية في إدارة شؤونهم.
ثانيًا: إشكالية تمثيل العينة والقيود الاجتماعية
اكتفى الباحثون بعينة من سكان مدينة الأحواز، وهو اختيار قد لا يعكس الواقع الواسع للعرب في المناطق الريفية والقبلية الذين يعيشون ظروف تهميش أشدّ وأكثر تعقيدًا. إضافة إلى ذلك، إجراء الاستبيان في بيئة تخضع لمراقبة أمنية مشددة، حيث تنتشر أجهزة الدولة والاستخبارات، يثير الشكوك حول صدقية الإجابات ومدى حرية التعبير عنها.
الأهم من ذلك أن أدوات البحث الكمية لا تعطي صورة عميقة عن دوافع الهوية، ولا تتناول التجارب الشخصية والذاكرة التاريخية والارتباطات العائلية والسياسية التي تشكل هوية الإنسان. لذلك، الاعتماد فقط على البيانات الكمية يجعل الدراسة عرضة لتبسيط المشكلة وتحويلها إلى “مشكلة شخصية أو ثقافية” بدلاً من “مشكلة سياسية وبنيوية”.
تحليل الخطاب الأيديولوجي في المقدمة
تتسم المقدمة بخطاب أيديولوجي يهدف إلى إعادة إنتاج السردية المركزية للدولة الإيرانية، عبر ثلاثة آليات رئيسية:
1. التشييء الثقافي
تصور المقدمة العرب بوصفهم متشبّثين بالتقاليد و”عاطفيين” في حلّ النزاعات، مع الإشارة إلى قضايا اجتماعية مثل الزواج القسري أو احترام الشيوخ على نحو يوحي بأن هذه العادات تمثل عائقًا أمام الانخراط في الهوية الوطنية. يُغفل هذا الخطاب أن التقاليد ليست سوى رد فعل على ظروف القمع والتهميش، وأن الحفاظ على البنى الاجتماعية التقليدية يُمكن تفسيره كآلية مقاومة للحفاظ على الهوية في مواجهة محاولات الطمس.
2. التجريم الضمني للمقاومة
تُبرز المقدمة مشاركة العرب في قتال الاستعمار البريطاني والحرب العراقية-الإيرانية كدليل على ولائهم لإيران، لكنها في الوقت ذاته تُعتبر أي تعبير معاصر عن الهوية العربية أو المطالبة بالحقوق القومية “خرافات” أو “مشكلات” داخلية تحتاج إلى علاج ثقافي أو اجتماعي، بدلًا من أن تُفهم كمقاومة سياسية مشروعة ضد سياسات التهميش والاستبداد.
3. تأكيد سردية الدولة المركزية
تضع المقدمة “الوحدة الوطنية” كهدف أعلى يجب الحفاظ عليه، وتصور أية دعوة للحقوق القومية أو الاعتراف بالهوية العربية كتهديد لـ”سلامة إيران”، وكأن الدولة لا يمكن أن تكون متعددة الإثنيات أو تعترف بخصوصيات كل شعب. هذا النهج يتجاهل أن السلامة الحقيقية تتطلب عقدًا اجتماعيًا جديدًا يستند إلى العدالة والمساواة، لا على الإقصاء والتهميش.
فشل سياسات الحكومات المركزية بعد أكثر من قرن من الاستعمار الداخلي
منذ إسقاط الحكم العربي في الأحواز عام 1925، مارست الحكومات الإيرانية سياسات ممنهجة لتهميش العرب، أدت إلى ثلاث مستويات رئيسة من الفشل:
1. التهميش البنيوي
رغم أن الأحواز هي واحدة من أغنى المناطق بالموارد النفطية، يعيش سكانها من العرب في فقر مدقع، مع معدلات بطالة مرتفعة ونقص الخدمات الأساسية. تتحكم المراكز الفارسية في الموارد، وتُحوَّل الأرباح بعيدًا عن المنطقة، في انتهاك صارخ لمبدأ العدالة الاقتصادية والاجتماعية.
2. القمع الثقافي واللغوي
تُحظر اللغة العربية في المؤسسات التعليمية والرسمية، ويُعاقب على استعمالها، بينما يُفرض الطابع الفارسي على التعليم والإعلام. وهذا يؤدي إلى محو الهوية الثقافية ويدفع بالأجيال الجديدة إلى الابتعاد عن ثقافتهم الأصلية، ما يفاقم الأزمة ويُعمّق شعورهم بالغربة داخل وطنهم.
3. العنف السياسي والقمع الأمني
محاولات عرب الأحواز للمطالبة بحقوقهم الوطنية – سواء عن طريق الاحتجاجات السلمية أو النشاط السياسي – قوبلت بالتوقيفات والاعتقالات التعسفية، وبممارسات قمعية صارمة، ما جعل من أي حوار وطني حقيقي شبه مستحيل، وعزز مناخ الخوف وعدم الثقة في الدولة.
قراءة بديلة: تفكيك الاستعمار الداخلي والاعتراف بالحقوق القومية
ينبغي أن تبدأ أي مقاربة حقيقية لمشكلة الهوية القومية في إيران من الاعتراف بأن الأحواز تعرضت لاستعمار داخلي طويل الأمد. ومن هذا المنطلق:
يجب الاعتراف بحق الشعوب الأصلية في تقرير المصير وفق المعايير الدولية، بما يشمل حقهم في الحفاظ على لغتهم وثقافتهم ومشاركتهم السياسية والاقتصادية الحقيقية.
يجب تفكيك السياسات الاستعمارية التي فرضت هوية فارسية أحادية، واستبدالها بمشروع دولة متعددة الإثنيات، تُبنى على أساس المساواة والعدالة.
تحتاج الدراسات المستقبلية إلى مناهج نوعية وتاريخية توثق التجارب الشخصية والسياسية، بعيدًا عن التبسيط الكمي الذي لا يتناول عمق الأزمة.
إن المقدمة التي تمهّد لدراسة «آسیبشناسی مسائل قومی در ایران» تعكس بوضوح محدودية الرؤية الرسمية التي تفرضها الدولة الإيرانية تجاه قضية العرب في الأحواز. فهي تكرّر الخطاب القومي الفارسي الذي يتجاهل مئة عام من الاستعمار الداخلي والتهميش، ويحمل العرب مسؤولية الأزمة بدلًا من التركيز على السياسات البنيوية التي أنتجتها. تظهر نتائج الدراسة ذاتها أن الحرمان السياسي والاقتصادي هو العامل الحاسم في تشكيل الهوية القومية العربية، وهو ما يؤكد فشل الدولة المركزية في بناء نموذج اندماجي حقيقي.
من هنا، تبرز الحاجة إلى إعادة صياغة التحليل في إطار نقدي تاريخي يأخذ في الاعتبار العلاقات الاستعمارية الداخلية وحقوق الشعوب غير الفارسية في إيران، بحيث يتحول الحوار حول الهوية الوطنية إلى مشروع شامل يقوم على الاعتراف بالتعددية والعدالة بدلًا من التهميش والإقصاء.
تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.