
يُعدّ الشيخ مكي الفيصلي من أبرز الشخصيات العربية في الأحواز خلال ستينيات القرن العشرين، إذ كان صوتًا نادرًا للعرب داخل البرلمان الإيراني في مرحلة اتسمت بتصاعد القمع السياسي والثقافي الممارس من قبل النظام الشاهنشاهي ضد السكان العرب. وقد أثارت علاقاته مع الدبلوماسيين البريطانيين ومداخلاته في مجلس الشورى تساؤلات حول موقعه الحقيقي: هل كان مجرد أداة وظّفتها القوى الأجنبية لخدمة مصالحها في الخليج، أم كان وطنيًا يسعى، بما هو متاح له من أدوات سياسية، إلى تخفيف حدة التهميش والحرمان الذي عانى منه شعبه؟
تهدف هذه الدراسة إلى مقاربة هذه الإشكالية عبر تحليل الوثائق البريطانية والأمريكية، وربطها بالسياق الإقليمي والدولي، لفهم طبيعة دور الشيخ الفيصلي وموقعه بين تهمة “العمالة” وواقع “النضال السياسي المعتدل”.
الوثيقة هي رسالة سرية (CONFIDENTIAL C.541/66) من هنري بارتليت، القنصل البريطاني في المحمّرة، موجهة إلى “تشارلز” (من السفارة البريطانية في طهران). تسجل اللقاء الذي جرى بين الشيخ مكي الفيصلي (نائب المحمّرة في البرلمان الإيراني) والقنصل البريطاني بحضور مصطفى بهبهاني.
- عبّر الفيصلي عن قلقه من التغيير السياسي في العراق: استبدال عبد الرحمن البزاز بـ نجم الدين طالباني كرئيس وزراء، معتبرًا أن ذلك سيفتح الباب لمزيد من نفوذ جمال عبد الناصر.
- حذّر من أن اتحادًا محتملاً بين العراق والجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا سابقًا) قد يؤدي إلى ابتلاع إمارات الخليج الصغيرة وإثارة الاضطرابات بين عرب الأحواز.
- استعاد تجربة الجنرال تيمور بختيار الذي كان يمتلك المال والكاريزما للتأثير على شيوخ الخليج ومتابعة النشاطات العربية هناك، في مقابل فشل مبعوثي الحكومة الإيرانية لاحقًا الذين “لا يعرفون كيف يتعاملون مع العرب”.
- أبدى الفيصلي تحفظه على تقارب الشاه مع الكتلة السوفيتية، وهو ما يعكس حساسيته من أي تحالف إيراني مع قوى يمكن أن تستخدم ضده أو ضد العرب.
- في الشؤون الداخلية، تبنّى موقفًا نقديًا شاملاً تجاه الحكومة الإيرانية، مستثنيًا الشاه وحده من إدانته.
- طالب بضرورة الإنصات لاحتياجات سكان الأحواز عبر تشكيل مجالس استشارية، معتبرًا أن ولاء الأحوازيين العرب لإيران لا يعني تجاهل حقوقهم.
الفيصلي رأى أن عضوية إيران في حلف السنتو يمكن أن تستغل لدفع مشاريع محلية في الأحواز. واستشهد بمثال: أربعة من نشطاء الأحواز المنفيين نجحوا في إثارة دعاية عالمية حول “عربستان”، فكيف إذا سمحت الحكومة بتشكيل هيئات تمثيلية حقيقية من أبناء المنطقة!

- القنصل البريطاني بارتليت أشار إلى أن الفيصلي يرى الأمور بواقعية، لكنه متشائم من قدرة الحكومة على الاستجابة.
- الفيصلي رفض أن يتحدث علنًا في البرلمان عن تهميش العرب، خوفًا من استغلال عبد الناصر لتصريحاته.
- مع ذلك، كان يحاول أن يوازن بين النقد الداخلي وبين الحفاظ على صورته كـ”نائب مخلص” للشاه.
هذه الوثيقة تبرز صورة الشيخ مكي الفيصلي كصوتٍ عربيٍّ معتدل، يحاول الدفاع عن حقوق عرب الأحواز من داخل نظام إيراني قمعي ودموي، دون أن يصطدم مباشرةً بالشاه.
- على المستوى الإقليمي: كان يتماشى مع السياسة الفارسية حيث يعتقد ان القومية العربية الناصرية تشكل مخاطر على استقرار المنطقة وطهران تخشى منها.
- على المستوى الداخلي: أدرك أن الحكومة الإيرانية تُهمل الشعب الأحوازي بشكل متعمد، لكنه ظل يؤمن بإمكانية إصلاح الوضع من خلال الضغط الناعم وتوظيف المنابر الدولية (مثل السنتو).
- على المستوى السياسي: الفيصلي كان يوازن بين ولائه الشكلي للشاه وبين تمثيله لمعاناة العرب، ما جعله حلقة وصل حساسة بين سكان المحمرة والسلطة المركزية، وأيضًا محط اهتمام بريطاني وأمريكي.
ومهما اختلفت القراءات في تقييم الشيخ مكي الفيصلي، بين من يراه وطنيًا حاول بما استطاع أن يخفف من حدة القمع الفارسي في عهد الشاه، ومن يصوره أداة في يد القوى الأجنبية، فإن الثابت أنه كان جزءًا لا يتجزأ من التاريخ السياسي للأحواز. فمثل هذه الشخصيات، سواء عُدّت إيجابية أو سلبية، وطنية أو عميلة، لا يمكن تجاوزها عند كتابة التاريخ، لأنها تعكس جانبًا من معاناة العرب تحت سياسات التهميش والحرمان، كما تكشف عن محاولات متنوعة – بدرجات مختلفة من النجاح أو الإخفاق – للتعامل مع واقع معقد فرضته السلطة المركزية في طهران والتوازنات الإقليمية والدولية في ذلك الوقت. إن استذكار الشيخ مكي الفيصلي وأمثاله ليس ترفًا، بل ضرورة لفهم مسارات تاريخ الأحواز، بكل تناقضاته وصراعاته، وبكل ما فيه من شخصيات شكلت – سلبًا أو إيجابًا – جزءًا من هذا المسار.
تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.