
مركز دراسات عربستان الأحواز- حامد الكناني- يُعَدّ سهل بني كنانة (بالفارسية: دشت چنانه) واحدًا من أبرز المناطق العربية في شمال غرب الأحواز، نظرًا لما يتمتع به من موقع جغرافي استراتيجي على تخوم الحدود بين العراق وبلاد فارس، وما شهده من أحداث سياسية وعسكرية شكّلت جزءًا أساسيًا من تاريخ المنطقة الحديث. وقد ارتبط السهل منذ القدم بقبائل عربية أصيلة كانت متحالفة تحت لواء بني لام، الذين عُرفوا أيضًا باسم بني عيلام، في إشارة إلى الجذور الحضارية الممتدة إلى ما تبقى من مملكة عيلام القديمة.
إن دراسة سهل بني كنانة لا تقتصر على الجغرافيا والقبيلة فحسب، بل تشمل أيضًا التداخل بين المحلي والإقليمي والدولي، حيث لعب الاستعمار البريطاني وسياسات الدولة الفارسية الحديثة دورًا محوريًا في إعادة تشكيل البنية القبلية والاجتماعية والسياسية للسهل. ومن هنا تأتي أهمية هذا البحث في رصد مسار المنطقة وتحليل دور قبائلها، ولا سيما قبيلة كنانة، في مواجهة التحولات العاصفة خلال القرن العشرين.
تعود أصول بني كنانة في الأحواز إلى التحالفات القبلية الكبرى التي تجمعت تحت اسم بني لام، وهو تحالف قبلي واسع النطاق كان يضم فروعًا عربية عديدة استقرت في سهول الأحواز والجزيرة الفراتية. ويُعَدّ بني لام الامتداد الاجتماعي والسياسي للشعوب العيلامية القديمة التي عاشت في إقليم عيلام (الأحواز حاليًا) قبل الميلاد، ومن هنا جاءت الإشارة إليهم في بعض المصادر باسم “بني عيلام”.
التلاعب بالتراث الحضاري العيلامي
تشير الوثائق البريطانية إلى وجود تنسيق بين الحكومة البريطانية والدولة الفارسية حول إعادة تسمية المواقع التاريخية في إيران لصالح مصالح الفرس واللور. ففي رسالة صادرة عن وزارة الخارجية البريطانية بتاريخ 13 أبريل 1934، ورد أن الحكومة الفارسية بدأت مشروعًا لتغيير أسماء الأماكن التاريخية، حيث تم إطلاق تسمية “عيلام” على منطقة حسين آباد أو ده بالا التي يقطنها اللور، بهدف تأسيس مشروع محافظة عيلام لاحقًا.
هذا التغيير، وفق الوثائق البريطانية، كان جزءًا من خطة سياسية لتغيير الانتماء التاريخي للحضارة العيلامية القديمة. فقد سعت الحكومة الفارسية، بدعم ضمني من البريطانيين، إلى تمكين اللور والكورد من الادعاء بأنهم أحفاد حضارة عيلام، رغم أن الشواهد التاريخية تشير إلى أن العرق الآري استقر في إيران قبل نحو 2500 عام فقط، بينما تعود جذور الحضارة العيلامية إلى أكثر من 7000 عام.
توضح الوثيقة البريطانية أيضًا أن الاسم “شهر عيلام” لم يكن دقيقًا، وأن التهجئة الصحيحة للاسم هي “عيلام”، وأن الموقع الجغرافي للمدينة القديمة (ده بالا) يقع عند الإحداثيات 33°37′ شمالًا × 46°24′ شرقًا، بينما تم بناء مدينة جديدة على بعد ميلين تقريبًا.
ويشير مضمون الوثيقة إلى أن الهدف من هذا المشروع كان ليس مجرد التغيير الجغرافي، بل محاولة سياسية لتغيير رواية التاريخ لصالح جماعات معينة، بما يشمل تحويل التراث العيلامي إلى أداة شرعية للسيطرة الثقافية والسياسية، على حساب الحقائق التاريخية والأصول العربية في الأحواز.
مع مطلع القرن العشرين، كان لبني لام حضور واسع وهيمنة نسبية على سهول شمال الأحواز وغربها. وقد اتسمت هذه القبائل بالتماسك الداخلي والقدرة على فرض الاستقرار في مناطق نفوذها. إلا أن هذا التماسك تعرض لهزّة قوية خلال الحرب العالمية الأولى، عندما وقف الشيخ غضبان بن بنية، أمير بني لام، إلى جانب الدولة العثمانية ضد بريطانيا وحلفائها. فاعتبر البريطانيون ذلك تهديدًا مباشرًا لمصالحهم في المنطقة، خاصة مع موقع الأحواز الحيوي قرب طرق المواصلات المؤدية إلى الخليج.
وبعد نفي الشيخ غضبان من موطنه، عملت بريطانيا على إعادة رسم الحدود بين العراق وبلاد فارس، ما أدى إلى انشطار مشيخة بني لام إلى شطرين متباينين. وفي هذه المرحلة برز دور قبيلة بني كنانة كأكبر المكونات في الجانب الذي أصبح تابعا لسلطة الشيخ خزعل في المحمرة، حيث تولى الشيخ زامل بن ضمد زعامتها وفي الجانب العراقي استمرت المشيخة لبيت محسن الدنبوس، فيما تولى الشيخ حسين بن تقي زعامة قبيلة خسرج. وقد توطدت مكانتهم بعد اللقاء التاريخي مع الشيخ خزعل بن جابر عام 1915 بمدينة الأحواز، وهو اللقاء الذي جمع بين الزعامة القبلية والشرعية السياسية الممثلة في حكم الشيخ خزعل للأحواز.
تشير الوثائق البريطانية إلى وقوع أحداث مؤسفة بين عبد الكريم نجل الشيخ غضبان بن بنية وأبناء قبيلة خسرج، والتي أبرزت التحديات في إدارة الزعامات القبلية. فقد تم تأجيل تسوية النزاع حتى عودة إدموندز من الأحواز، وعند مرضه، تم استدعاؤه لإتمام الترتيبات، حيث وقّعت الالتزامات اللازمة ومنح عبد الكريم إعانة قدرها 200 تومان. كما أُعطي قائمة بالدعاوى المستحقة على خسرج، وأُمر بتحصيلها وإرسال المخالفين للسلطات البريطانية.
غير أن الشيخ غضبان تدخل في الأمر بعد مغادرة عبد الكريم، مرفقًا بالملازم البريطاني س. إي. إتش. كولز، الذي أبلغ عن ابتزازات عبد الكريم في غياب والده. وقد طمأن المسؤولون البريطانيون غضبان بأن ابنه كان مجرد وكيل للوالد، وأنه مسؤول عن حسن سلوك خسرج أمام السلطة البريطانية، مع ضرورة خضوعه للوالد في الأمور القبلية.
بعد أسبوعين، أفادت رسالة من غضبان بأن عبد الكريم قد سدد مكاسبه غير المشروعة، والتي بلغت 6852 روبية، إلا أنه لم يُعتبر مناسبًا لتولي مسؤولية الخسرج، فقُبض عليه وأُرسل الشيخ زامل بن ضمد ممثلًا عنه. ووفق القرار النهائي، تم قبول عزل عبد الكريم وتعيين زامل بدلاً منه، ليتمكن الأخير من العودة إلى مديرة واستلام مهامه في موقعه.
ظلّ زعماء بني كنانة وخسرج مخلصين للشيخ خزعل حتى لحظة سقوط حكمه على يد رضا شاه بهلوي. وهذا الموقف كلّفهم غاليًا، إذ اعتبرتهم السلطات الفارسية خصومًا مباشرين، فعمدت إلى التنكيل بهم وزرع المستوطنين من اللور في أراضيهم ضمن سياسة تهدف إلى تفكيك النسيج القبلي العربي في المنطقة.
بعد نفي الشيخ غضبان بن بنية إثر وقوفه مع الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، دخلت بريطانيا بقوة على خط إعادة ترتيب الأوضاع القبلية والسياسية في الأحواز. فقد كانت ترى في بني لام، ومن ضمنهم بني كنانة، قوة قادرة على تهديد نفوذها، خصوصًا مع امتداد نفوذهم بين العراق والأحواز على تماس مباشر مع طرق المواصلات الحيوية نحو الخليج.
اعتمد البريطانيون سياسة تفكيك التحالفات القبلية من خلال تشجيع الانقسامات الداخلية، وفرض حدود جديدة بين العراق وبلاد فارس، بحيث جرى فصل الأجزاء الغربية من نفوذ بني لام عن امتدادهم الطبيعي في الأحواز. هذا الانشطار ترك أثرًا عميقًا على تماسك القبيلة، إذ انتقل مركز الثقل القيادي في هذا الجانب إلى الشيخ زامل بن ضمد، زعيم بني كنانة، وإلى الشيخ حسين بن تقي، زعيم قبيلة خسرج.
في عام 1915، عُقد اللقاء التاريخي بين الشيخين وزعماء قبائل أخرى مع الشيخ خزعل بن جابر آل مرداو، أمير الأحواز، الذي كان يسعى إلى تعزيز صفوفه في مواجهة الضغط الفارسي المتزايد. وقد شكّل ذلك اللقاء محطة محورية؛ إذ كرّس دور بني كنانة باعتبارهم أكبر المكونات القبلية في شمال الأحواز، وجعلهم جزءًا من الجبهة المساندة للشيخ خزعل.
غير أن هذا الاصطفاف لم يدم طويلاً. فمع سقوط حكم الشيخ خزعل على يد رضا خان بهلوي، دخلت المنطقة مرحلة جديدة من الصراع. نظر رضا شاه إلى قبائل الأحواز، وبالأخص بني كنانة وخسرج، باعتبارهم بقايا قوة سياسية مرتبطة بالحكم السابق وبالنفوذ البريطاني غير المباشر. لذا عمد إلى تنفيذ سياسة مزدوجة:
- التنكيل بالزعماء القبليين عبر الاعتقالات والنفي.
- إغراق مناطقهم بالمستوطنين من اللور بهدف تفكيك التركيبة السكانية وإضعاف القبيلة داخل أراضيها.
وبذلك تحولت بني كنانة من قوة قبلية متماسكة، ذات ثقل سياسي، إلى هدف مباشر لسياسة الدولة الفارسية المركزية، التي رأت في كسر شوكتهم خطوة ضرورية لإحكام السيطرة على شمال الأحواز.
مع سقوط حكم الشيخ خزعل وفرض السيطرة المباشرة لرضا شاه بهلوي على الأحواز، دخلت قبائل السهل الشمالي، وعلى رأسها بني كنانة وخسرج وآل كثير، وكعب الدبيس، في مرحلة من الاضطرابات المستمرة. فقد رأت هذه القبائل أن سياسات الدولة الفارسية الجديدة تستهدف وجودها ذاته عبر حملات نزع السلاح، وزرع المستوطنين الغرباء، والتضييق على زعمائها التقليديين.
تشير الوثائق البريطانية إلى أن العقيد إبراهيم ضرابي، قائد القوات العسكرية في الأحواز خلال الأربعينيات، كان يتعامل بغلظة مع شيوخ القبائل، متوعدًا بـ”كسر رقبة العرب” إن لم يخضعوا للسلطة المركزية. وقد ربط ضرابي بين استقلالية القبائل واتصالاتها السابقة مع البريطانيين، على الرغم من أن الشيوخ أكدوا أنهم كانوا ينفذون نصائح المندوبين البريطانيين بالحفاظ على السلم الأهلي وتسليم الخارجين على القانون للسلطات الفارسية.
رغم الضغوط، واصلت القبائل مقاومتها عبر الغارات التقليدية التي شكّلت وسيلة للتعبير عن رفض السلطة المفروضة. فقد وثّقت التقارير البريطانية بين عامي 1942 و1944 سلسلة من الغارات التي قام بها رجال كنانة وخسرج:
- في 14 سبتمبر، هاجمت مجموعة من كنانة قرية سيد حسن قرب “أهو دشت”، واستولت على نحو 250 رأسًا من الجاموس بعد مقتل وإصابة عدة أشخاص.
- في 6 أكتوبر، شنّت كنانة وخسرج غارة كبرى بين تستر وديزفول، استولت خلالها على 1500 رأس من الأغنام و70 من الحيوانات الأخرى، قبل أن تتعرض لمطاردة انتهت باستعادة جزء من الغنائم.
- كما استهدفت مجموعات مسلحة مقاولين تابعين لشركات بناء الطرق في الصالحية (انديمشك)، وأخذت مؤنًا وملابس في إطار ما وصفته الوثائق البريطانية بأنه تعبيرا عن “شكاوى ضد المقاولين”.
هذه الغارات لم تكن مجرد أعمال نهب كما صورتها السلطات، بل كانت تعبيرًا عن المقاومة الشعبية المسلحة ضد الهيمنة الفارسية، ومظهرًا من مظاهر رفض سلطة الدولة المركزية.
تزامنت هذه الأحداث مع عودة الشيخ جاسب بن خزعل من المنفى واعلان ثورته لاسترجاع السيادة العربية في الأحواز حيث أخذ من منطقة القجرية منطلقا للثورة لكن اثر تدخل القنصل البريطاني واقناعه بالعودة الى البصرة ومتابعة حقوق الشعب الأحوازي بالطرق السلمية، ردّت الدولة الفارسية على هذا الموقف السلمي بتصعيد عسكري غير مسبوق. ففي 16 مايو، قصفت الطائرات الفارسية منطقة القجارية بعد تحدي سكانها للأوامر، مما أدى إلى سقوط ضحايا بين العرب، وهو حدث أثار غضب الأهالي الذين اعتبروا القصف محاولة متأخرة لـ”استعراض الحزم” بعد أن أمّنت بريطانيا عودة بعض الشيوخ المنفيين إلى العراق.
كما أطلقت الحكومة عمليات نزع السلاح بشكل واسع. فقد اجتمع العميد همايوني بشيوخ كنانة والميناو، وأجبرهم على تسليم مئات البنادق، كثير منها بريطاني الصنع، وهو ما دفع بعض الضباط الفرس إلى اتهام بريطانيا بتسليح العرب. وقد قُدّر عدد البنادق المسلّمة بحوالي 815 بندقية بحلول يوليو 1944.
أدت هذه الحملات إلى اعتقال العديد من الشيوخ، ومحاكمتهم عسكريًا، بينما اضطر آخرون إلى الخضوع مؤقتًا. ومع ذلك، ظلّت روح المقاومة حاضرة بين القبائل. فقد رأى البريطانيون أنفسهم أن الإجراءات الفارسية لم تُسفر عن استقرار حقيقي، بل زادت من العداء الشعبي ورسّخت قناعة لدى سكان الأحواز بأن الدولة الفارسية تسعى إلى اقتلاعهم من أرضهم عبر القمع العسكري والاستيطان.
مجزرة ومحرقة هور الميناو (1935)
تشير الوثائق الصادرة عن وزارة الخارجية البريطانية إلى أن الجيش الفارسي نفذ عملية عسكرية واسعة ضد مجموعة مسلحة عربية من بني كنانة في منطقة هور الميناو سنة 1935. وقد حاصر الجيش الفارسي حوالي 30 مسلحًا من أبناء القبيلة لمدة خمسة أيام، قبل أن يلجأ إلى إشعال النار في الأهوار باستخدام 12 علبة من زيت الكيروسين لإجبارهم على الاستسلام.
وفقًا للتقرير الدبلوماسي البريطاني، أسفرت الاشتباكات المباشرة عن مقتل 24 عربيًا، بينما أُسر الستة الباقون ونقلوا إلى معسكر القنيطرة (ديزفول) ثم إلى الأحواز. من بين القتلى، كانت هناك ستة قيادات تم قطع رؤوسهم وعرضها في الجبس أمام القاعدة العسكرية كوسيلة لإرهاب الأهالي وإظهار قوة الجيش.
وقد أظهر هذا الحصار والمواجهة العسكرية عنفًا شديدًا من قبل الجيش الفارسي، لكنه أيضًا أبرز مرونة ومقاومة القبائل العربية التي لجأت إلى الأهوار الطبيعية لحماية نفسها وتأجيل الاستسلام، مما يعكس قدرة بني كنانة على المقاومة المنظمة والتكتيكية رغم تفوق الجيش من حيث العدد والعتاد.
يتميّز سهل بني كنانة ببنية اجتماعية وقبلية متشابكة، تعكس في جوهرها النسيج العربي الأصيل الممتد من العراق إلى الأحواز. فالقبائل التي تسكن هذا السهل لم تكن كيانات معزولة، بل جزءًا من شبكة واسعة من التحالفات والعلاقات القبلية التي حافظت على تماسك المجتمع الأحوازي، وفي الوقت نفسه شكّلت تحديًا أمام محاولات السلطة المركزية الفارسية لتفكيكها.
من أبرز مظاهر التنظيم الاجتماعي في الأحواز ما يُعرف بـ “الشط”، وهو المجال الجغرافي الذي تنسب إليه القبيلة. فمثلاً:
- يقال “شط بني طرف” للإشارة إلى القبائل العربية في سهل دست ميسان أو ميسان الشرقية، وهو الإقليم الذي يتوزع بين العراق والأحواز.
- يقال “شط كنانة” للدلالة على القبائل التي تقطن سهل كنانة شمال الأحواز، ويمتد من جنوب غرب مدينة السوس حتى مدينة موسيان ، القصى الشمال الغربي من الأحواز.
- يقال “شط كارون” عند الحديث عن القبائل التي استقرت على ضفاف نهر كارون.
هذا النظام لم يكن مجرد تسمية جغرافية، بل كان يعكس انتماءً عميقًا للجماعة وارتباطًا بالأرض، حيث يرتبط كل “شط” بنوع من السيادة العرفية للقبيلة على أراضيها ومواردها.
أدى التنوع القبلي في الأحواز إلى تشكيل مجتمع متعدد البنى، حيث احتفظت كل قبيلة باستقلالها النسبي، وفي الوقت نفسه شاركت في تحالفات كبرى مثل تحالف بني لام. ومع دخول القرن العشرين، ظل الولاء القبلي أحد أهم محددات الهوية، لكنه بدأ يتقاطع مع الهوية الوطنية الأحوازية الناشئة، خصوصًا في ظل التهديدات الفارسية المتزايدة.
إلا أن هذه البنية القبلية لعبت دورًا مزدوجًا:
- من جهة، ساعدت على حماية المجتمع العربي في مواجهة السلطة المركزية، حيث وفّرت القبيلة إطارًا للدفاع الذاتي وتنظيم الغارات والمقاومة.
- ومن جهة أخرى، أسهمت في تشتت الجهود السياسية، إذ غلبت أحيانًا الانتماءات القبلية والمناطقية على الانتماء الوطني، ما انعكس لاحقًا على التنظيمات السياسية الأحوازية في المنفى، التي كثيرًا ما حملت بصمات الانتماء القبلي لقادتها.
سياسات رضا شاه ثم ابنه محمد رضا بهلوي لم تقتصر على القمع العسكري، بل شملت أيضًا إعادة هندسة البنية السكانية عبر جلب مستوطنين من اللور وغيرهم إلى مناطق بني كنانة. وقد استهدفت هذه السياسة كسر الروابط التقليدية بين القبيلة والأرض، وإحداث خلخلة في النسيج الاجتماعي بما يسهّل على الدولة فرض سلطتها. ومع ذلك، ظلت القبيلة قادرة على الاحتفاظ بجزء كبير من هويتها ومجالها الاجتماعي، وإن كان ذلك بثمن باهظ من التضحيات.
أدت سياسات الدولة الفارسية، بدعم أو غض طرف من البريطانيين، إلى إضعاف التحالفات القبلية في سهل بني كنانة. فبعد أن كانت بني كنانة تشكل عمودًا فقريًا لتحالف بني لام، أُجبرت على الانقسام والرضوخ لسياسة نزع السلاح، وهو ما قلل من قدرتها على العمل كقوة سياسية موحدة. ومع ذلك، لم ينجح هذا التفكيك في محو الولاء القبلي أو روح المقاومة، بل دفع القبائل إلى تطوير أساليب جديدة للحفاظ على كيانها.
شكّل رفض بني كنانة للخضوع التام للسلطة المركزية مصدر قلق مستمر للدولة الفارسية. فالغارات القبلية، التي وثقتها التقارير البريطانية، لم تكن مجرد أحداث أمنية عابرة، بل مؤشرًا على أن قبائل السهل رفضت شرعية الحكم الفارسي، ورأت نفسها جزءًا من امتداد عربي أشمل يربط الأحواز بالعراق والخليج.
كان لسهل بني كنانة دور بارز في تشكيل الهوية الوطنية الأحوازية. فمن جهة، جسّد الانتماء القبلي العميق الذي حافظ على الشخصية العربية في وجه سياسات التفريس. ومن جهة أخرى، كشف عن التحديات الداخلية التي واجهت الأحوازيين، حيث أدى النزوع القبلي إلى إضعاف التنظيمات السياسية اللاحقة، وجعلها أكثر عرضة للانقسامات. ومع ذلك، فإن ذاكرة المقاومة التي ارتبطت بكنانة وخسرج وبني طرف أسهمت في بلورة خطاب وطني يقوم على فكرة الدفاع عن الأرض والهوية العربية.
سياسة الاستيطان الفارسي في مناطق كنانة تركت جروحًا عميقة في النسيج الاجتماعي، إذ حاولت الدولة فرض واقع ديموغرافي جديد يغيّر التوازنات التقليدية. غير أن ارتباط القبيلة بأرضها، ومرونتها في التكيف مع الضغوط، مكّناها من الاستمرار والحفاظ على حضورها، وإن كان أقل قوة من السابق.
إن دراسة سهل بني كنانة تكشف عن مساحة جغرافية ليست عادية، بل عن مسرح لتفاعل معقّد بين القبيلة والدولة والاستعمار. فقد كان السهل قاعدة لتحالفات عربية ضاربة في القدم تعود جذورها إلى حضارة عيلام، وتحول لاحقًا إلى بؤرة مقاومة ضد الاستعمار البريطاني والسياسات الفارسية الحديثة.
أثبتت تجربة كنانة وخسرج وبني طرف أن البنية القبلية، رغم ما شابها من انقسامات، لعبت دورًا حاسمًا في حماية المجتمع العربي الأحوازي والحفاظ على هويته. كما كشفت الوثائق البريطانية والاستخباراتية أن هذه القبائل لم تكن مجرد جماعات محلية، بل طرفًا فاعلًا في معادلات إقليمية ودولية، تتداخل فيها المصالح البريطانية والفارسية والعثمانية.
وفي النهاية، يظل سهل بني كنانة شاهدًا على مقاومة العرب في الأحواز، وعلى صراع طويل بين قوى إقليمية ودولية سعت لتغيير ملامحه، دون أن تنجح في محو جذوره العربية العميقة.
المصادر والمراجع
- British Library: India Office Records and Private Papers, Coll 28/120, IOR/L/PS/12/3533, “Persia – Ahwaz, Consular diaries”.
- وزارة الخارجية البريطانية، لندن، 13 أبريل 1934. Coll: L 3433/41/405، سكرتير اللجنة الدائمة للأسماء الجغرافية، الجمعية الجغرافية الملكية، لندن.
- ملخص الاستخبارات العسكرية رقم 30 للفترة من 24 يوليو إلى 6 أغسطس 1944، الشؤون الفارسية، سياسي (سري).
- القنصل البريطاني العام، الأحواز، 16 أكتوبر 1942، Coll 28/120, IOR/L/PS/12/3533, Qatar Digital Library.
Coll 28/6 ‘Persia; Diaries: Khuzistan (Ahwaz) Diaries Jany 1931 – 1937.’, British Library: India Office Records and Private Papers, IOR/L/PS/12/3400, Qatar Digital Library.- الملف 3540/1916 «بلاد ما بين النهرين 1919 الجزء (2)» [608v], IOR/L/PS/10/620, British Library.
- الوثائق والمصادر الشفهية حول زعماء القبائل الأحوازية: الشيخ غضبان بن بنية، الشيخ زامل بن ضمد، الشيخ حسين بن تقي، والشيخ خزعل بن جابر.
- المراسلات والشهادات المتعلقة بالغارات والمواجهات بين القبائل والدولة الفارسية (1942–1944).
- الدراسات حول البنية القبلية في الأحواز ومفهوم “الشطوط”.
- الأبحاث حول تأثير السياسات الفارسية في شمال الأحواز على النسيج الاجتماعي والهوية العربية.
- الدراسات حول الدور البريطاني في رسم الحدود وفك تحالفات القبائل الأحوازية بعد الحرب العالمية الأولى.
تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.