
مركز دراسات عربستان الأحواز- حامد الكناني- في صيف عام 1951، كانت عربستان الأحواز تعيش واحدة من أكثر مراحلها التاريخية اضطرابًا. فمنذ سقوط الإمارة العربية على يد القوات الفارسية عام 1925، وبدعم مباشر من بريطانيا،¹ لم تعرف المنطقة الاستقرار. إذ أُقصي العرب عن إدارة أرضهم، ونهبت ثرواتهم، وأصبحت المحمرة وعبادان مركزًا لصراع معقد يجمع بين أطماع الدولة المركزية الفارسية وحشود المستوطنين، ومصالح الشركات الأجنبية، وأحلام العرب الأحوازيين في التحرر. وفي قلب هذا المشهد، برز اسم الشيخ مكي بن علي الفيصلي، زعيم قبيلة عربية معروف ووجه بارز في مدينة المحمرة.
تصفه البرقيات البريطانية بأنه شخصية مزعجة لكل من البريطانيين والإيرانيين. ففي برقية مؤرخة 15 يونيو 1951، كتب القنصل البريطاني: *«ألقى الشيخ مكي خطابًا استفزازيًا خلال حفل أقيم على شرف الوفد الفارسي. أشار فيه إلى ممارسات سابقة للبحرية البريطانية واعتداءاتها، مبررًا بذلك تأميم النفط.»*² وفي برقية أخرى بتاريخ 16 يونيو 1951، يرد: *«رد علائي ومكي، خصوصًا الأخير، بشكل غاضب، مؤكدين أن الأمر لا يعني الحكومة البريطانية وأنهم يرفضون تدخلنا.»*³
لم يقتصر موقف الفيصلي على الخطابة السياسية، بل امتد إلى اهتمام ملموس بأوضاع العمال العرب في عبادان. ففي جولة ميدانية، *«أصر على زيارة أسوأ الأحياء السكنية في جوار أكبر مصفاة لتكرير النفط وتصديره في الشرق الأوسط، وهي مساكن العمال العرب، مع مصور لتوثيق الصور…»*⁴، بينما سجلت برقية أخرى أنه: *«قام الشيخ مكي برفقة مجموعة من الرجال، بينهم اثنان مسلحان بمسدسات، بجولة في المصافي. وقد طرح أسئلة ذكية وأبدى اهتمامًا كبيرًا بالمصنع.»*⁵ بل إنه ذهب أبعد من ذلك، معلنًا عزمه: *«الحصول على إيصالات من جميع الناقلات قبل الإبحار.»*⁶ في محاولة لفرض نوع من الرقابة الشعبية على عمليات التصدير.

“مرسل في: 16 يونيو 1951، الساعة 14:37 بتوقيت غرينتش
رقم الوثيقة: 236 بتاريخ 16 يونيو 1951
سري وعاجل للغايةموجهة إلى طهران
تكرار الرقم 236 بتاريخ 16 يونيو لغرض الإعلام إلى وزارة الخارجية
عزيزي السيد/ I. P. Τ،
- حصلت على انطباع قوي بأن الشيخ مكي يشكل مصدر إحراج كبير لبقية أعضاء الوفد بسبب خطاباته المرتجلة والمستفزة.
- مباشرة بعد مناقشتي التي وردت في برقيتي المشار إليها، أجرى المدير العام محادثة مطولة مع متين دفتري. وقد طُلب مني التأكيد على أن هذه المحادثة سرية للغاية ولا يجب الاقتباس منها أو نشر محتواها.
أعرب دفتري عن قلقه الشديد عندما أُبلغ بأن البريطانيين قد يغادرون إيران إذا جرت المفاوضات في طهران فقط وفقًا للشروط التي تصر عليها لجنة النفط الإيرانية، وإذا ما فُرضت علينا تأميم صناعة النفط. وأوضح أن هذه الخطوة من شأنها أن تؤدي بلا شك إلى ثورة في خوزستان، إذ كان على دراية بعدم قدرة الإيرانيين على إدارة الصناعة بمفردهم. وطلب من المدير العام محاولة إقناع الحكومة البريطانية بالتوصل إلى اتفاق ما.
وأضاف دفتري أنه يبذل قصارى جهده للسيطرة على مكي، وأنه أُرسل فعليًا مع الوفد لهذا الغرض.
- بالصدفة، وقع مسودة إشارة كانت اللجنة النفطية قد أعدتها لإرسالها إلى السفارات الإيرانية في واشنطن وباريس وأماكن أخرى في أيدي شركة النفط البريطانية الإيرانية (AIOC). تحتوي الإشارة على عرض لبيع النفط إلى عدة دول، صادرة باسم الشركة الوطنية الإيرانية.”
هذه المواقف جعلت منه عنصرًا محرجًا داخل الوفد الإيراني نفسه، إذ أشارت إحدى البرقيات إلى أنه *«يشكل مصدر إحراج كبير لبقية أعضاء الوفد بسبب خطاباته الارتجالية والمستفزة.»*⁷ ومع ذلك، كان الواقع خارج الوثائق الرسمية مختلفًا تمامًا. في الوعي الشعبي، طُبعت صورته بصورة مشوهة، إذ اتُهم مكي بالخضوع للشاه محمد رضا بهلوي والانتماء لجهاز المخابرات الإيراني “السافاك”، ما دفع كثيرين لرؤيته كعميل وخائن.
إلا أن الوثائق البريطانية تكشف عن مواقفه الوطنية الصريحة، بما في ذلك دفاعه عن العمال العرب، وحماية مصالحهم، وتسليط الضوء على التهميش الاجتماعي الذي تعانيه مجتمعاتهم. هذا التشويه لم يكن عشوائيًا، بل كان جزءًا من حرب الهوية والمعلومات التي خاضتها التيارات الفارسية الشمولية، خاصة اليسارية منها، وعلى رأسها حزب التودة والمستوطنون الفرس في الأحواز، بهدف إفراغ المنطقة من أي قيادة عربية قوية وتشويه أي شخصية قد تمثل العرب في صراعهم على الأرض والهوية.
واليوم، نلاحظ أن العديد من الشباب الذين كانوا يناصرون التنظيمات الفارسية الشمولية يكرهون الشيوخ العرب، وعلى رأسهم الشيخ مكي الفيصلي، متأثرين بالخطاب الفارسي المبطن بغطاء اليسار والتصنيف الطبقي، الذي يصور الشيوخ كرموز للرجعية وبقايا الاقطاع. كما يُحمّل بعض الشباب العرب الشيوخ مسؤولية تدهور الأوضاع السياسية والثقافية والاقتصادية، دون وعي، متجاهلين التأثير العميق للسياسات الإيرانية الممنهجة التي تهدف إلى تهميش العرب والقضاء على قياداتهم.
مسيرة الشيخ مكي لم تنتهِ في خمسينيات القرن العشرين، بل امتدت نشاطاته لتشمل الحركة المعارضة للنظام البهلوي. بعد سقوط الشاه عام 1979، وأثناء مجزرة “الأربعاء الأسود” في المحمرة يوم 30 مايو 1979،⁸ كان من بين المؤسسين والداعمين للمنظمة السياسية للشعب العربي الأحوازي. وفي عام 1980، أسس مع آخرين الجبهة العربية لتحرير الأحواز في العراق،⁹ مواصلًا دوره كزعيم وطني.
تضمنت وثيقة فارسية خطابًا رسميًا من تیمور بختیار إلى الشيخ مكي، بتاريخ 22 اردیبهشت 1349، يظهر علاقتهما السياسية وحرص بختیار على التعاون مع الشيخ في ما وصفه بـ “الطريق المقدس لتحرير إيران من الاستبداد والاستعمار”:
*”السيد الشيخ مكي الفيصلي،
شيخنا العزيز وصديقنا العزيز، أتمنى أن تكون أنت وأهلك بخير وسعادة دائمة. ونظرًا لما جمعتني بك من معرفة واهتمام سابق… فإن هذا يُسعدنا ويسعدني كثيرًا، وسأكون سعيدًا جدًا بلقائك ومناقشة قضايا سياسية وعسكرية بالغة الأهمية معك واتخاذ القرارات اللازمة…”*¹⁰
الرسالة تؤكد أن الشيخ مكي لم يكن مجرد شيخ احوازي، بل كان حلقة وصل في شبكة النضال العربي والفارسي ضد استبداد أسرة البهلوي الفاسدة، متعاملًا مع شخصيات وطنية معارضة لنظام الشاه، ومستعدًا للعمل ضمن خطط سياسية وجغرافية معقدة امتدت حتى العراق.

توفي الشيخ مكي بن علي الفيصلي عام 1998 في الأردن، ودُفن بعيدًا عن مدينته المحمرة، التي كانت يومًا ما قبلة للمناضلين والمثقفين العرب، قبل أن تتحول بفعل السياسات العنصرية إلى مدينة شبه فارغة من سكانها الأصليين. لقد جسد الفيصلي شخصية مركبة: ليس خائنًا كما روجت بعض الدعايات، ولا بطلًا معصومًا من الأخطاء، بل زعيمًا عربيًا حاول الدفاع عن شعبه ضمن فضاء سياسي ضيق تحكمه قوتان استعماريتان، الفرس والبريطانيون.
يبقى إرثه شاهدًا على مقاومة العرب الأحوازيين لكل محاولات التذويب والتهميش، وصوتًا عربيًا لم يسكت منذ برقيات 1951 حتى تأسيس الجبهة العربية عام 1980، ومن شوارع المحمرة إلى منفى الأردن، وإلى تواصله مع المعارضة الإيرانية بقيادة تیمور بختیار.
الهوامش والمراجع
- تقارير بريطانية عن إسقاط إمارة الشيخ خزعل وتسليم الأحواز للسلطة المركزية الإيرانية عام 1925.
- برقية القنصلية البريطانية في المحمرة، رقم 231، 15 يونيو 1951.
- برقية القنصلية البريطانية في المحمرة، رقم 235، 16 يونيو 1951.
- برقية القنصلية البريطانية في المحمرة، رقم 231، 15 يونيو 1951.
- برقية القنصلية البريطانية في المحمرة، رقم 242، 19 يونيو 1951.
- المرجع نفسه.
- برقية القنصلية البريطانية في المحمرة، رقم 236، 16 يونيو 1951.
- تقارير وشهادات محلية عن أحداث “الأربعاء الأسود” في المحمرة، 30 مايو 1979.
- بيانات الجبهة العربية لتحرير الأحواز، العراق، 1980.
- تیمور بختیار، سپهبد تیمور بختیار به روایت اسناد ساواک، جلد سوم، بختیار در عراق، صفحه 120.
تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.