ذكرى يرويها البروفيسور بروس إنغهام عن زيارته الأولى إلى بلدة عائلتنا، المحرزي في المحمرة، ولقائه بالشيخ عبد العزيز فاضلي.

الشيخ أحمد بن علي آل ثاني، عام 1960.
مركز دراسات عربستان الأحواز- في أوائل عام 1970 كنت أحاول أن أتعلم لهجة الأحواز العربية، ولهذا السبب كنت أقيم في عبادان في فندق جديد يُسمى “نايت كلوب” في بُريم، وكان مِلكًا لابن عم زوجتي، السيد حسن عرب. كنت حينها محاضرًا مساعدًا شابًا، أجمع مواد لأطروحة الدكتوراه في علم اللغة في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية (SOAS)، بعد أن حصلت على درجة أولى في اللغة العربية. وقد وجّهني أستاذي السابق البروفيسور توماس موير جونستون إلى الأحواز، مُشيرًا – وبحق – إلى أنني بفضل زواجي من إيرانية سيكون من السهل عليّ أن أتأقلم هناك.
وما إن وصلت إلى الأحواز، رغم صعوبة السفر بسبب النزاع حول شط العرب بين إيران والعراق، حتى ساعدني حسن عرب في التعرف على كثير من أبناء المنطقة، الذين كانوا متعاونين جدًا معي في تعلم لهجة الأحواز. وكان من أوائل من التقيتهم محمود فاضلي، وكان شابًا في مثل سني، درس في لندن، فوجدنا الكثير من الاهتمامات المشتركة بيننا. ولهذا السبب بالتحديد، وفي يوم حار من مارس، استقليتُ سيارة أجرة من أمام الفندق وطلبت من السائق أن يقلني إلى “المحرزي”. انطلقنا بسرعة على الطريق المعبّد حديثًا باتجاه المحمرة وتوقفنا عند بداية الجسر الجديد فوق نهر كارون. وكان هذا الطريق دائمًا يذكرني بجسر واترلو حين يعبر نهر التايمز جنوبًا، لترتفع فوق الضفة ثم تنتهي فجأة على الضفة الجنوبية. لكن الفارق أن عبورك التايمز يُبقيك داخل لندن، أما إذا عبرت الجسر من بُريم تصل إلى ميناء المحمرة الحديث الصاخب، تاركًا وراءك بساتين النخيل وبيوت العرب في الأحواز. ورغم أن المحمرة كانت تُرى من المحرزي، فإن العالمين مختلفان: عالم حديث في المحمرة، وآخر قبلي تقليدي في المحرزي.
لم نكن قد دخلنا “المحرزي” بعد، وفي الحقيقة لم يكن يُمكن رؤيتها من تلك النقطة، لكن هذا كان أقصى ما يمكن أن تصل إليه سيارة الأجرة، وقد جئتُ إلى هناك من قبل. كان عليّ أن أنزل من الطريق المرتفع، حيث تعلو قمة أشجار النخيل، إلى مستوى الأرض في البساتين أسفلها، حيث البيوت ظاهرة، وكذلك القوارب الخشبية الطويلة الأنيقة المعروفة بـ”البَلَم” على النهر. ثم سرت على ضفة النهر حتى وصلت إلى بيت الشيخ عبد العزيز الفاضلي، والد محمود. وكان عبد العزيز شيخ قبيلة “المُطُور”، وهي جزء من اتحاد “المُحَيِّسِن” في تلك المنطقة.
جئتُ في تلك المناسبة لأُسجّل رواية للتاريخ المحلي يرويها الحاج عبد العزيز، وحملت معي جهاز تسجيل “أوهر” متينًا وثقيلًا على حزام فوق كتفي. وعندما وصلت إلى المبنى الذي كان المضيف (قاعة الضيافة) للشيخ، وجدت جمعًا من الرجال يجلسون حول القاعة، فتم تقديمي إليهم واحدًا تلو الآخر، ثم جلست بجوار محمود. بدأنا بالقهوة – القهوة الداكنة العطرة التي يشتهر بها الأحواز – ثم تناولنا الطعام، الذي أُكل على “السفرة” على الأرض كما هو معتاد في الولائم الكبيرة. وأخيرًا تحدّث الشيخ عن تاريخ عرب الأحواز وعلاقتهم بالدولة الفارسية، وعن الشيخ خزعل حاكم المنطقة قبل صعود رضا خان مؤسس السلالة البهلوية. ورغم أن الشيخ كان يتحدث الإنجليزية بطلاقة، فقد تكلم بالعربية لكي يفهم الحاضرون، وبالطبع سررت بسماع مثل هذا العالم الجليل يتحدث بلغتي موضوع البحث. ثم قُدّمت قهوة أخرى، وكانت هذه إشارة انتهاء المجلس، لكن قبل أن أتهيأ للقيام سألني الشيخ عبد العزيز إن كنت أعيش في لندن، فأجبت بالإيجاب. فقال إن له ابنًا أصغر يعيش في لندن في منطقة “أرتشواي”، وكانت قريبة جدًا من حيث أقطن في “هورنزي”، فوعدته أن ألتقيه عند عودتي في الصيف.
وبعد عدة أشهر، عندما عدت إلى لندن، اتصلت بسلام (ابن الشيخ) ورتبت أن يأتي لشرب الشاي. جلسنا ننتظر عند نافذة منزلنا، فرأينا سيارة “إم جي” حمراء أنيقة تتوقف أمام الباب، ونزل منها شاب وسيم طويل القامة بشعر أسود لامع كثيف، وصعد الدرج. كان ذلك بداية صداقة طويلة. أسرَ قلب زوجتي شُكوه على الفور، وكان كوننا جميعًا نتحدث الفارسية سببًا في سرور أولادي أيضًا. ولأنني كنت قد سجلت أشرطة كثيرة بلهجة الأحواز، خاصةً واحدة من لهجة “الكَواوِلة” (الغجر) في “ملا ثاني” قرب مدينة الأحواز، فقد كنت بحاجة لشخص يساعدني في تفسير الأجزاء الصعبة والإجابة عن استفساراتي حول اللهجة. وكان بإمكان كلية SOAS في تلك الأيام أن تدفع مقابل هذه الخدمة، فكان سلام يأتي مرة أو مرتين في الأسبوع، نشرب الشاي مع البسكويت ونستمع إلى التسجيلات التي كنت أفرّغها كتابة. وكان أطفالي كثيرًا ما يسألون عن العربية، فكان سلام يعلّم ابني عددًا من العبارات المضحكة والشتائم الطريفة، التي كانوا يرددونها في حضوره. وذات مرة، حين جاء الشيخ عبد العزيز إلى لندن، دعونا العائلة إلى عشاء شرقي، وكنت متوترًا أن يخرج ابني إيريك، البالغ من العمر سبع سنوات، بإحدى تلك الشتائم أمامه. لكن لم يكن هناك ما يُقلق، إذ بادر سلام على الفور قائلاً: “سلام إيريك، كلب ابن كلب!” فرد إيريك حسب العادة: “سلام سلام، گواد ابن گواد!” فانفجر الجميع ضحكًا.
واصلنا العمل على الأشرطة واللهجة لعدة سنوات، وحتى بعد حصولي على الدكتوراه كنا ما نزال نلتقي، إلى أن انتقل سلام بعيدًا عن لندن. وعدتُ إلى الأحواز عدة مرات في سبعينيات القرن الماضي، وكنت دائمًا أزور “المحرزي” لرؤية محمود والشيخ. وما زلت أتذكرها كمكان سحري؛ هناك شيء في هدوء الجو، ونهر كارون الجاري، والقوارب “البَلَم” وهي تنزلق بهدوء، وأشجار النخيل الطويلة الأنيقة، والضباب الخفيف في الأفق، والرجال بثيابهم العربية يمشون ببطء ويلقون التحية من بعيد – ربما علموا أنني ضيف الشيخ. سأظل دائمًا أذكر تلك الأيام.
المصدر: https://memoriesfromourkitchen.com/2022/08/18/a-visit-to-mihirzi-khuzestan/
تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.