
في الثاني من ديسمبر عام 2025 رحل في الأحواز الحاج لَفْتة بن عبيد الساري، والد الشهيدين محمد علي وجعفر، ووالد الأسير حمزة الساري الذي لا يزال يقضي حكماً مؤبداً منذ عشرين عاماً. رحل الرجل الذي حمل من الوجع ما يفوق قدرة البشر، وتحمل مصائب متتالية بدأت بإعدام اثنين من أبنائه ثم بحرمانه من الثالث القابع في السجن، وظل رغم ذلك صبوراً ثابتاً يحمل هموم أسرته وقضية شعبه العربي الأحوازي.
كان الفقيد لفتة الساري مثالاً للأب الصابر، فقد شاهد ابنيه محمد علي—المعلم المثقف—وجعفر يُسحبان إلى المشنقة عام 2006 بعد محاكمة لم تستغرق سوى دقائق، بينما حُكم على ابنه الثالث حمزة بالإعدام قبل أن يُخفف إلى السجن المؤبد. عاش الوالد سنوات طويلة يتابع أخبار حمزة من خلف الأسوار، وهو متنقّل بين سجون كارون ورجائي شهر وقزلحصار، محروم من حقوقه الأساسية، يعاني التعذيب والعزلة والأمراض، فيما لا يُسمح لذويه بزيارته إلا نادراً. ومع كل ذلك ظل الفقيد متمسكاً بالأمل، يواجه صدماته بصمت الرجال.
أما حمزة، فقد اعتُقل وهو في السادسة عشرة من عمره عام 2005، بعد احتجاجات شعبية واسعة في الأحواز، واتُّهم مع شقيقيه بالضلوع في أحداث أمنية وبـ«المحاربة» و«الإفساد في الأرض». لم تُتح له فرصة الدفاع عن نفسه، ولم يُمكَّن من لقاء محامٍ إلا لخمس دقائق وتحت أعين الضباط، ثم حُوكم في جلسة لم تتجاوز بضع دقائق، صُدرت فيها أحكام معدّة مسبقاً. تعرّض في بداية اعتقاله إلى خمسة أشهر من الحبس الانفرادي في استخبارات أهواز، ثم ثلاثة أشهر أخرى في استخبارات شيراز، وتعرض لتعذيب جسدي ونفسي قاسٍ، قبل أن يُعاد إلى المحكمة ليُبلغ بحكم الإعدام.
نُفذ الحكم بشقيقيه محمد علي وجعفر عام 2006، فيما بقي حمزة ينتظر مصيره بين السجون. ويروي رفاقه في المعتقل، ومنهم فرهاد ميثمي وآرش صادقي، كيف واجه حمزة تلك السنوات القاسية بروح نادرة وميل صادق للإنسانية، حتى أنهم لم يروا فيه أي نزعة انتقام رغم خسارته الموجعة. كان قارئاً، محاوراً، ونبيلاً في سلوكه اليومي، يساعد السجناء، يظهر تعاطفاً مع الضعفاء، ويطعم قطط ساحة السجن، حارساً بقايا الخير في بيئة قاسية. ومع ذلك ظل عرضة للإهمال الطبي، فعانى من أمراض خطيرة كالواریکوسیل، آلام المفاصل، كيست بيكر، مشاكل التنفس، والتهابات الرئة، دون علاج كافٍ.
زاد ألم العائلة حين رحلت والدته حسناء غانم قبل عامين وهي تتحسر على فراق أبنائها الثلاثة، بعدما أُعدم اثنان وحُرم الثالث من احتضانها طوال سنوات سجنه. ومع كل هذه المحن، ظل الأب الراحل يتابع محنة ابنه الأسير، ويُمنع مراراً من إقامة عزاء لولديه الشهيدين، ويواجه إجراءات أمنية مشددة لا ترحم مشاعر أبٍ منكسر.
قصة حمزة ليست مجرد حكاية شاب سُجن في عمر الورد، بل مرآة لمعاناة العشرات من الشباب العرب في الأحواز الذين تحولت نشاطاتهم الثقافية إلى ملفات أمنية، وزُجّ بهم في سجون بعيدة، وانتُزعت منهم اعترافات تحت التعذيب، وقُدمت قضاياهم في محاكم شكلية لا تتيح حق الدفاع. وتكشف قصة حمزة حجم الانتهاكات التي وثقتها تقارير حقوقية دولية، من الاعتقال التعسفي، وغياب المحامي، والتعذيب، والإهمال الطبي، وحتى الإعدام دون محاكمات عادلة.
رحل الحاج لفتة الساري بعد أن أرهقه الحزن، تاركاً خلفه تاريخاً من الصبر وبيتاً مثقلاً بالفقد، وابناً لا يزال خلف القضبان، ينتظر بارقة أمل تعيده إلى الحياة. وتبقى حكاية هذه العائلة شاهداً صارخاً على ما تعرّض له كثيرون في الأحواز من ظلم وقمع وحرمان، وعلى صمود آباء حملوا جراحهم في صدورهم دون أن ينهاروا.
رحم الله الفقيد لفتة الساري، والخلود للشهيدين محمد علي وجعفر، والحرية للأسير حمزة الساري. إنا لله وإنا إليه راجعون.
تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.