
مركز دراسات عربستان الأحواز- حامد الكناني- مع نهاية عام 2025، بدأت شرارات انتفاضة جديدة في إيران، انتفاضة تبدو في جوهرها نتيجة حتمية لما تعانيه البلاد من تدهور اقتصادي غير مسبوق، وسوء إدارة فاضح، وانسدادٍ كامل في الأفقين السياسي والاجتماعي.
فبعد قرابة خمسة عقود على قيام الجمهورية الإسلامية، بات واضحًا أن هذا النظام يقترب من مراحله النهائية. ولم تعد الأزمة محصورة في إقليم دون آخر أو فئة دون غيرها، بل أصبحت شاملة تطال جميع الأقاليم والمكونات:
العرب، والفرس، والأتراك الأذريين، والأكراد، والبلوش، واللور، والبختياريين، والتركمان، وسكان العاصمة طهران على حدّ سواء.
القاسم المشترك بين الجميع هو انهيار الأوضاع الاقتصادية، وما يرافقه من ضغوط معيشية خانقة، إلى جانب سوء الإدارة المزمن ورفض النظام الاستجابة لمطالب شعبية مشروعة، نصّ عليها حتى الدستور الإيراني نفسه. وبدلًا من الإصغاء لهذه المطالب، اختار النظام خيار القمع، وأغلق جميع قنوات الحوار، رغم أن الاحتجاجات انطلقت بمطالب بسيطة تتعلق بالعيش الكريم والعدالة والكرامة الإنسانية.
هذا النهج يعكس حقيقة أن النظام لم يعد قادرًا على الإصلاح أو التكيّف، بل بات يكتفي بإدارة أزماته بالقوة وحدها.
تاريخيًا، وعند النظر إلى عمر الأنظمة في إيران، نجد أن خمسة عقود شكّلت الحد الزمني لحكم النظام البهلوي بشقّيه (رضا شاه ومحمد رضا شاه)، وها هي الجمهورية الإسلامية اليوم تقترب من العمر ذاته. الأمر الذي يعزز القناعة بأن التغيير قادم لا محالة. لكن السؤال الجوهري يبقى:
هل سيكون التغيير تغيير وجوه فقط كما حدث عام 1979، مع بقاء النظام المركزي القمعي على حاله؟ أم سيكون تغييرًا جذريًا يحقق تطلعات الشعوب في الحرية والعدالة والديمقراطية؟
في عام 1979، رُفعت شعارات الديمقراطية و«حكم الشعب»، وشاركت مختلف التيارات السياسية، بما فيها اليسار، في الحراك الثوري، غير أن تلك الوعود سرعان ما سقطت، ليُنشأ نظام استبدادي لا يختلف في جوهره عن النظام البهلوي الذي سبقه. واليوم يتكرر السؤال ذاته:
هل ستُترك شعوب إيران لتقرر مصيرها بنفسها؟ أم ستتدخل القوى الدولية مرة أخرى لصناعة بديلٍ تابع يركب موجة الغضب الشعبي ويعيد إنتاج الاستبداد بصيغة جديدة؟
ما هو مؤكد أن الشعوب لم يعد لديها ما تخسره. فالمواطن الإيراني فقد أمنه واستقراره وسبل عيشه وكرامته. استشرى الفساد في جسد الدولة، وانهار الاقتصاد، ودخلت العملة في سقوط حر، بينما تُهدر ثروات البلاد على مشاريع خارجية وشعارات «تصدير الثورة»، ما جعل المعاناة اقتصادية ونفسية في آن واحد.
حتى جواز السفر الإيراني فقد قيمته، وأصبحت إيران في ذيل مؤشرات التنمية والتقدم، وتتصدر قوائم الفساد وسوء الحوكمة.
إضافة إلى ذلك، لم يعد المواطن الإيراني اليوم هو ذاته عام 1979؛ فقد برزت داخل هذه الجغرافيا شعوب وقوميات تعتز بهوياتها وتسعى إلى المشاركة الفعلية في تقرير مصيرها، بل إن بعض هذه المكونات بات يطمح إلى تفكيك الدولة المركزية القمعية التي فُرضت مطلع القرن الماضي بدعم قوى استعمارية، ولم تجلب سوى القمع والتهميش.
وفي مناطق مثل الأحواز وبلوشستان، القريبة من ممرات الطاقة الحيوية والمطلة على الخليج العربي، بلغ السخط الشعبي ذروته بعد عقود من الاحتلال الفارسي، والعنصرية الممنهجة، والفقر المتعمد، والتهميش المستمر لما يزيد على مئة عام. هذه الشعوب لم تعد تقبل بتكرار خدعة عام 1979، وأي محاولة لإعادة إنتاج ديكتاتورية جديدة قد تدفعها نحو خيارات أكثر تطرفًا، بما يشكل تهديدًا مباشرًا لأمن الطاقة وممرات الملاحة، وعلى رأسها مضيق هرمز ومياه الخليج العربي.
من هنا، يصبح لزامًا على الدول الغربية المرتبطة بمصالح استراتيجية في المنطقة، خصوصًا في مجالات النفط والطاقة، أن تدرك خطورة تجاهل تطلعات شعوب إيران. فالتلاعب بإرادة هذه الشعوب أو الالتفاف على مطالبها لن يؤدي إلا إلى عدم استقرار أمني واقتصادي قد تستغله قوى إقليمية ودولية مناوئة.
وفي هذا السياق، يبرز سؤال بالغ الأهمية: ما هو موقف الشعب الأحوازي؟
هل يقف موقف المتفرج، أم ينخرط بفاعلية في هذه الانتفاضة التي يُتوقع أن تمتد إلى جميع الأقاليم؟
لا شك أن هذه اللحظة تمثل فرصة تاريخية للشعب الأحوازي كي يشارك إلى جانب بقية الشعوب المضطهدة، مع التمسك بشعاراته الوطنية الخاصة باللغتين العربية والفارسية التي تعبّر عن معاناته، وتطالب بالحرية والعدالة وحق تقرير المصير.
لكن في الوقت ذاته، يجب الحذر من الانجرار خلف شعارات جاهزة تروج لها قوى ملكية أو تيارات شمولية، قد تعيد إنتاج نظام مركزي قمعي جديد إذا ما وصلت إلى السلطة.
على الشباب الأحوازي، وعلى جميع المشاركين في الاحتجاجات، أن تكون شعاراتهم واضحة لا لبس فيها:
لا لشرعنة الاستبداد، أيًّا كان شكله، نعم للحرية والديمقراطية والعدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
الأحداث لا تزال في بدايتها، ومع تطورها ستتضح المسارات أكثر، وكما يقول العرب:
لكل حادث حديث.
تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.