هل يمكن أن تتفكك إيران كما تفككت يوغوسلافيا في عام 1992؟

مركز دراسات عربستان الأحواز- عند مقارنة الحالة الإيرانية بالتجربة اليوغوسلافية في أوائل التسعينيات، لا بد من تحليل المشهدين بدقة، مع مراعاة الفوارق الهيكلية والتاريخية والسياسية العميقة بينهما.

فيوغوسلافيا السابقة كانت دولة اتحادية تتكوّن من ست جمهوريات ومقاطعتين تتمتعان بالحكم الذاتي، مع حدود إدارية واضحة ومحددة بدقة، غالبًا ما تطابق الانقسامات العرقية والقومية. وقد نصّ دستور 1974 على توسيع صلاحيات الجمهوريات والمقاطعات، ما منحها أدوات سياسية وأمنية واقتصادية مستقلة نسبيًا عن الحكومة المركزية، الأمر الذي مهّد لاحقًا لصعود النزعات التحررية.

ومع وفاة الزعيم اليوغوسلافي جوزيف بروز تيتو عام 1980، بدأ يظهر الفراغ السياسي، وارتفعت حدة النزاعات القومية، خاصة في ظل تراجع الاقتصاد وانتشار البطالة والتضخم، وانخفاض فاعلية المؤسسات المركزية، ما قاد البلاد تدريجيًا إلى انفجار دموي نتج عنه انهيار الدولة اليوغوسلافية إلى دويلات متناحرة.

رغم التشابه من حيث التنوع العرقي والقومي والضغوط الاقتصادية والسياسية، إلا أن إيران تختلف جوهريًا عن يوغوسلافيا في عدة عناصر محورية:

غياب النظام الفيدرالي والتقسيم الإداري القومي:
إيران ليست دولة فيدرالية، ولا تحتوي على كيانات قومية ذات حكم ذاتي رسمي أو حدود إدارية مرسومة على أسس عرقية أو قومية. على العكس، عمد النظام الإيراني منذ عقود إلى إعادة رسم الخارطة الإدارية بطريقة تذيب الهويات القومية داخل المحافظات، مع تقسيم المناطق ذات الأغلبية العرقية إلى وحدات إدارية مختلفة، لتقليل فرص تشكيل كيانات متجانسة قوميًا.

تعقيد الصراعات الداخلية:
الصراعات داخل إيران لا تقتصر على خلافات بين قوميات والسلطة المركزية، بل تشمل أيضًا تنافسًا داخليًا بين القوميات المختلفة ذاتها. مثلًا، هناك حساسيات تاريخية بين الأكراد والأذريين في شمال غرب إيران، فضلًا عن تنازع النفوذ بين البختياريين واللور والعرب في الجنوب الشرقي والجنوب الغربي، وبين البلوش والسيستانيين، إضافة إلى التداخل بين الأكراد واللور، وكلها عوامل تضعف إمكانية تحالف هذه المكونات في مشروع تحرري مشترك.

غياب المؤسسات السياسية المستقلة:
بخلاف جمهوريات يوغوسلافيا التي كانت تمتلك حكومات محلية، وأحزابًا سياسية، وقوى أمنية محلية، فإن إيران تحتكر جميع مفاصل الدولة في يد المركز، سواء عبر الحرس الثوري أو وزارة الداخلية. ولا توجد مؤسسات محلية قادرة على إدارة شؤونها باستقلال نسبي، ما يجعل أي حراك تحرري، في الوقت الحالي، مجرد احتجاجات لا ترقى إلى تهديد وجودي للدولة.

قبضة أمنية مركزية صارمة:
تتمتع الدولة الإيرانية، حتى اليوم، بقدرة أمنية عالية في قمع أي حركة تحررية، معتمدة على الحرس الثوري، والباسيج، وقوات الأمن الداخلي، فضلًا عن شبكة استخبارات معقدة. وعلى الرغم من تكرار الاحتجاجات، إلا أن النظام لا يزال يمتلك القدرة على التحكم بالمشهد الأمني واحتواء التهديدات قبل أن تتحول إلى حركات منظمة قابلة للاستمرار.

الاعتبارات الجيوسياسية والدولية:
على المستوى الدولي، يُنظر إلى إيران باعتبارها دولة مركزية ذات أهمية حيوية في معادلات أمن الطاقة والتوازنات الجيوسياسية وحماية طرق الملاحة، وموقعها الجغرافي بين آسيا الوسطى، الخليج العربي، وشرق المتوسط. لذلك، فإن القوى الدولية ليست مستعدة حتى الآن لدعم أي مشروع تفكيكي، بل تميل إلى الحفاظ على وحدة الدولة الإيرانية، حتى في ظل التوترات، خشية من فراغ سياسي يؤدي إلى صراعات إقليمية مفتوحة أو يخلق كيانات ضعيفة خارجة عن السيطرة.

حق تقرير المصير في السياق الإيراني والنهج الأوروبي تجاهه

في التجربة الدولية، وخصوصًا داخل الاتحاد الأوروبي، يُفهم “حق تقرير المصير” غالبًا ضمن إطار ضيق يراعي وحدة الدول القائمة، ولا يُنظر إليه كدعوة مباشرة للاستقلال أو تفكيك الدول المركزية. بل يُطرح هذا الحق كوسيلة لتوسيع المشاركة السياسية أو تعزيز الحكم الذاتي داخل الحدود المعترف بها للدولة، بهدف الحفاظ على وحدة أراضيها ومنع الفوضى والانهيار.

وفي الحالة الإيرانية، تنظر القوى الدولية، بما فيها الاتحاد الأوروبي، إلى “حق تقرير المصير” بشكل مختلف عن الرؤية المتداولة شعبيًا داخل بعض الحركات القومية. فالمجتمع الدولي، خصوصًا في الظروف الحالية، لا يشجع، ولا يعترف، بأي حراك تحرري مباشر يؤدي إلى تفكيك دولة مركزية مثل إيران، لأن مثل هذا السيناريو غالبًا ما ينتهي إلى فوضى أمنية، ويخلق كيانات ضعيفة وعاجزة عن حفظ الأمن الداخلي أو الإقليمي.

من هذا المنطلق، يتبنى المجتمع الدولي، خصوصًا الاتحاد الأوروبي، فكرة “المراحل الانتقالية” قبل أي حديث عن استقلال فعلي. وتتمثل هذه المراحل غالبًا في تعزيز اللامركزية ومنح الأقاليم صلاحيات أوسع لإدارة شؤونها، سواء على المستوى الإداري أو الاقتصادي أو الثقافي، ضمن إطار وحدة الدولة.

هذا التوجه يقوم على قناعة بأن منح الأقاليم نوعًا من الحكم الذاتي المحدود يمكن أن يخفف من النزعات التحررية ويخلق نوعًا من التوازن، مع الحفاظ على استقرار الدولة الأم ومنع تصاعد الفوضى.

الموقف الدولي والإقليمي من سيناريوهات التفكك في الشرق الأوسط، وموقع إيران في هذه المعادلة

تتعامل الدول الكبرى، خصوصًا في الاتحاد الأوروبي، بحذر بالغ مع أي مطالب بالاستقلال داخل الدول ذات البنية المركزية الصارمة مثل إيران. فالاتحاد الأوروبي ومعظم القوى الكبرى لا يفضلون أي تحرر مباشر أو غير مدروس، بل يشجعون، إن لزم الأمر، على المرور بمرحلة انتقالية تحت عنوان “اللامركزية الموسعة” أو “الحكم الذاتي المحدود”، كخطوة تهدف إلى تهيئة المؤسسات المحلية لضمان إدارة مستقرة، وتفادي فراغ السلطة والفوضى، وحماية الأمن الإقليمي والدولي.

هذا الحذر ينبع من تجارب مريرة شهدها الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة، حيث أدى الانفلات السياسي أو السقوط المفاجئ للدول المركزية إلى فوضى شاملة وأزمات ممتدة.

التجربة العراقية:
يُعتبر العراق نموذجًا صارخًا لهذا الخوف. فبعد غزوه للكويت عام 1990، فرض المجتمع الدولي عقوبات قاسية عليه، أضعفت مؤسسات الدولة ومهدت الطريق أمام تفكك تدريجي للدولة العراقية. وبعد الغزو الأمريكي في عام 2003، دخل العراق في مرحلة انهيار مؤسسي وأمني حاد، خصوصًا بين عامي 2006 و2007، حيث تفكك عمليًا إلى ثلاث مناطق شبه منفصلة:

  • شمال كردي شبه مستقل،
  • غرب تسيطر عليه فصائل سنية،
  • جنوب يهيمن عليه النفوذ الشيعي.

ورغم كل ذلك، لم يحظَ أي مشروع تحرر رسمي بقبول دولي، حتى حين أجرى إقليم كردستان استفتاء الاستقلال في 2017 بقيادة مسعود بارزاني، قوبل هذا الاستفتاء برفض قاطع من معظم دول العالم، بل حتى من الدول الإقليمية المحيطة بالعراق، التي اتفقت، رغم خلافاتها، على ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي العراقية.

التجربة السورية:
في سوريا، تكررت التجربة ذاتها بشكل مختلف. فمع اندلاع الثورة السورية وما تلاها من حروب وصراعات، فقدت الحكومة المركزية السيطرة على معظم الأراضي السورية، ووصل الأمر في ذروته إلى خروج نحو 90% من أراضي البلاد عن سيطرة دمشق، مع ظهور فصائل مختلفة مثل قوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية، وفصائل إسلامية مسلحة في إدلب وغيرها.

لكن، بمرور الوقت، وتحت ضغوط دولية وإقليمية، تم احتواء معظم هذه المشاريع التحررية، وأُعيد طرح مشروع “الدولة السورية المركزية” بوصفه الإطار الوحيد المقبول دوليًا، في ظل رفض قاطع لتقسيم سوريا خشية من تداعيات إقليمية كارثية.

التجربة الليبية:
في ليبيا أيضًا، عقب انهيار نظام معمر القذافي، شهدت البلاد صراعًا مسلحًا بين قوى متعددة، وتقسيمًا ميدانيًا فعليًا، لكن رغم طول أمد الأزمة، لم يسمح المجتمع الدولي، ولا القوى الإقليمية، بطرح سيناريو تقسيم ليبيا رسميًا. فهناك إجماع خفي بأن تفكيك ليبيا سيفتح أبوابًا للفوضى في إفريقيا وشمال المتوسط، ويهدد الأمن الأوروبي والعربي معًا، ما جعل الدول الكبرى تركز على حل سياسي يعيد توحيد البلاد.

التحالفات الإقليمية لمنع التفكك:
الملفت في كل هذه التجارب أن هناك ما يشبه التوافق الإقليمي غير المعلن بين دول الشرق الأوسط، حتى تلك المتنافسة أو المتصارعة، على ضرورة منع تفكك أي دولة في المنطقة. فمثلًا:

  • دول الجوار العراقي (الكويت، السعودية، الأردن، تركيا، سوريا)، رغم تناقضاتها، عملت بشكل مشترك للحفاظ على وحدة العراق.
  • التجربة ذاتها تكررت في سوريا، حيث تعاونت قوى متباينة مثل تركيا والسعودية والأردن للحفاظ على وحدة سوريا، خشية من انتقال سيناريو التفكك إلى داخل حدودها.

فالدول الإقليمية الكبرى، مثل تركيا والسعودية، تنظر إلى وحدة الدول المحيطة بها بوصفها ضمانة لاستقرارها الداخلي. وأي تفكك في الشرق الأوسط يُعد خطرًا مهددًا للجميع، إذ أن انتقال العدوى إلى داخل الحدود يصبح أمرًا واردًا جدًا في ظل التشابه السكاني والديموغرافي بين شعوب المنطقة.

النموذج الإيراني وموقف الدول الإقليمية:
بالنسبة لإيران، فإن معظم القوى الإقليمية، رغم خصوماتها مع طهران، تتحفظ من مشروع تفكيكها. واللافت أن حتى أطرافًا معروفة بعدائها لإيران، مثل بعض الدول العربية وتركيا، لا تتبنى فعليًا فكرة تقسيم إيران بشكل مباشر، نظرًا لخوفها من انعكاسات ذلك على التوازن الإقليمي، ولأن تفكك إيران قد يُشعل موجات من النزاعات العابرة للحدود.

وقد عبّر عن هذا التوجه بوضوح الأمير تركي الفيصل، الرئيس السابق للاستخبارات السعودية، في مقال نشره في صحيفة ذا ناشيونال، حيث انتقد دعم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لفكرة تفكيك إيران، محذرًا من أن مثل هذه السياسات قد تؤدي إلى تداعيات أمنية خطيرة ليس فقط على إيران، بل على المنطقة بأكملها.

نظرة مستقبلية: هل يبقى التفكك مستبعدًا تمامًا؟

رغم كل ما سبق، لا يمكن إغفال أن تراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب الانقسامات العرقية والقومية، يشكّل قنبلة موقوتة على المدى البعيد. ومع تصاعد الفقر والبطالة وتآكل شرعية النظام في أعين العديد من القوميات والمكونات الاجتماعية، يبقى احتمال الانفجار قائمًا، وإن كان السيناريو المتوقع لن يشبه تفكك يوغوسلافيا، بل سيكون أكثر بطئًا وتعقيدًا، وربما يأخذ شكل “اللامركزية المتدرجة” قبل أي سيناريو تفكك محتمل.

وقد يظهر التفكك عبر مراحل:

  • توسيع الصلاحيات المحلية في بعض الأقاليم تحت ضغوط داخلية ودولية.
  • تصاعد النفوذ السياسي للقوميات داخل السلطة.
  • انتقال تدريجي إلى “نظام أقاليم”، إذا ترافق مع تغيّر في بنية النظام السياسي.
  • ظهور حركات تحررية قوية في حال انهيار أمني شامل أو تدخل خارجي كبير.

تفكك إيران، رغم التشابه الظاهري مع يوغوسلافيا، لا يبدو أمرًا وشيكًا في الوقت الحالي، لكنه احتمال قائم على المدى الطويل، خاصة إذا تزايد الضغط الاقتصادي، وانهار التماسك الأمني، أو حدث تغيّر مفاجئ في النظام السياسي، أو توافقت القوى الدولية والإقليمية على إعادة رسم خارطة المنطقة. ولكن حتى في هذه الحالة، سيكون تفكك إيران أشد تعقيدًا وأطول زمنًا من حالة يوغوسلافيا، بفعل غياب البنية الفيدرالية، وشدة القبضة المركزية، وتشابك المصالح الدولية.

عربستان شبه‌مستقل؛ کشوری شبیه به کامنولث در دل امپراطوری ایران قاجار

تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.

موقع ويب تم إنشاؤه بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑