عندما نطقت العملة: التالر النمساوي بين عربستان الأحواز والحجاز

في أواخر القرن الثامن عشر، حين كانت الإمبراطوريات تتنافس على السيطرة والنفوذ، ظهرت عملة أوروبية واحدة فرضت وجودها في قلب الشرق الإسلامي، ليس بقوة السلاح، بل بثقلها الفضي وموثوقيتها الاقتصادية. إنها عملة ماريا تيريزا النمساوية، المعروفة باسم التالر، التي تحولت إلى وسيلة تبادل موثوقة من أسواق الهند إلى موانئ الحجاز وسواحل عربستان (الأحواز).

اللافت أن هذه العملة، رغم أصولها الأوروبية، خضعت لوسم عربي محلي في مناطق مختلفة. في إحدى المسكوكات التي ما زالت محفوظة حتى يومنا هذا، نُقش على وجه التالر اسم “عربستان” بخط عربي بارز. لم يكن هذا مجرد وسم عابر، بل كان إعلانًا ضمنيًا عن قوة اقتصادية ناهضة في جنوب بلاد فارس، حيث شكّلت عربستان نقطة التقاء للتجارة بين فارس، العراق، والهند، وتمتعت بعلاقات تجارية قوية مع بريطانيا والخليج.

وفي مسكوكة أخرى مشابهة، برز النقش العربي “نجد” و**”الحجاز”**، في إشارة إلى اعتماد هذه العملة بشكل واسع في شبه الجزيرة العربية، لا سيما في الحجاز، موطن الحرمين الشريفين، والذي كان حينها مركزًا روحيًا وتجاريًا بالغ الأهمية. فقد استخدم التجار التالر في سوق جدة، وتداوله الحجاج القادمون من أنحاء العالم الإسلامي.

ما يجمع بين المسكوكين هو أن كليهما يعكس محاولة تأصيل العملة الأجنبية داخل نظام اقتصادي محلي، عبر “توسيمها” باللغة العربية، وإضفاء طابع السيادة المحلية عليها. عربستان، رغم أنها لم تكن دولة مستقلة بشكل رسمي، إلا أنها عبّرت عن مكانتها الاقتصادية المستقلة، وربما تفوقت في بعض الفترات على الحجاز من حيث النشاط التجاري والانفتاح على الأسواق العالمية.

لكن اليوم، وبعد مئة عام من الاحتلال الفارسي لعربستان وتقويض سيادتها العربية، تتصدر المدن الأحوازية قوائم الفقر والبؤس والحرمان في إيران، رغم ثرواتها النفطية الهائلة وأراضيها الزراعية الخصبة. لقد تحوّل الإقليم الذي كان يومًا ما حاضنةً للازدهار والتبادل العالمي، إلى منطقة مهمّشة، تنزف هويةً وثروة.

إن مسكوكات ماريا تيريزا، الممهورة بأسماء عربستان والحجاز، لا تحكي فقط قصة نقود، بل تسجل لحظة من التاريخ كانت فيها السيادة تُوسم على الفضة، والهوية تُحفر على المعادن النفيسة. هي شهادة ناطقة على مجدٍ مضى… ونداءٌ صامت لما ضاع منه.

تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.

موقع ويب تم إنشاؤه بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑