الأحواز.. ثروات منهوبة وشعب يطالب بحق تقرير المصير/ حامد الكناني

امير عربستان الأحواز الشيخ مزعل بن جابر آل مرداو ، حكم من 1881حتى1897
استمع لبودكاست المقال
Listen to the article podcast
به پادکست مقاله گوش دهید

عرفت الإمبراطوريات والحضارات القديمة أنماطاً متنوعة من الحكم، بعضها كان يتسم بالمركزية الشديدة، وبعضها الآخر اعتمد أنظمة أقرب إلى ما يمكن وصفه اليوم بـ النظام الفيدرالي أو الحكم اللامركزي المنظم. فقد أدركت تلك الإمبراطوريات أن اتساع رقعتها الجغرافية وتعدد شعوبها ولغاتها وأديانها يستلزم وجود نظام إداري مرن يوازن بين سلطة الإمبراطور أو الدولة المركزية وبين منح الأقاليم استقلالية نسبية تمكّنها من إدارة شؤونها اليومية بكفاءة.

الإمبراطورية الرومانية ونظام المقاطعات

اتبعت الإمبراطورية الرومانية بدورها نظاماً إدارياً مشابهاً، من خلال تقسيم أراضيها الشاسعة إلى مقاطعات (Provinces) تُدار بواسطة حكام محليين (Governors) يتم اختيارهم من قبل مجلس الشيوخ أو الإمبراطور. كانت هذه المقاطعات تتمتع بحرية نسبية في إدارة شؤونها الداخلية، مثل القوانين المحلية أو إدارة الموارد، شريطة أن تلتزم بدفع الضرائب وتقديم الدعم العسكري عند الحاجة.

كما كانت روما تحرص على دمج الشعوب التي تخضع لسيطرتها، عبر منح بعض المدن أو الأقاليم امتيازات خاصة، مثل حق المواطنة أو المشاركة في التجارة، ما خلق نوعاً من التوازن بين الولاء لروما والاحتفاظ بالهوية المحلية.

الولايات اليونانية (المدن-الدول)

وفي العالم اليوناني القديم، نشأت المدن-الدول (Polis) مثل أثينا وإسبرطة وطيبة، والتي كانت تتمتع بحكم ذاتي كامل تقريباً، لكنها أحياناً كانت تدخل في تحالفات أو اتحادات سياسية وعسكرية مثل الرابطة الديلوسية أو الرابطة البيلوبونيسية. يمكن النظر إلى هذه التحالفات باعتبارها شكلاً بدائياً من الاتحاد الكونفدرالي، حيث كانت المدن الأعضاء تتعاون في شؤون الدفاع المشترك، مع احتفاظ كل مدينة باستقلالها الداخلي.

إن هذه النماذج التاريخية تبيّن أن فكرة الجمع بين السلطة المركزية القوية وبين الحكم الذاتي المحلي ليست وليدة العصر الحديث، بل هي مبدأ قديم أثبت نجاحه في إدارة الدول متعددة القوميات أو الممتدة جغرافياً. وفي العصور الحديثة، تبنت إمبراطوريات كبرى – مثل الإمبراطورية البريطانية – أنماطاً مشابهة عبر تأسيس الكومنولث البريطاني، الذي منح المستعمرات السابقة استقلالية سياسية واقتصادية، مع الإبقاء على روابط التعاون المشترك.

“بين ’ستان‘ و’ان‘: دلالات جغرافية وسياسية في التاريخ الفارسي

في السياق الفارسي، برزت طريقة مميزة في تسمية الأقاليم والشعوب؛ إذ كان يتم إلحاق كلمة “ستان” – التي تعني “أرض” – باسم الشعب الذي يقطن المنطقة، مثل: بلوشستان، كردستان، عربستان. وما زال هذا الأسلوب سائداً في الفارسية الحديثة، حيث تُسمى بولندا “لهستان”، وبريطانيا “إنجلستان”، والهند “هندوستان”، إلى جانب أسماء مثل أوزبكستان، طاجيكستان، وأفغانستان.

أما خلال الحكم الصفوي (1501–1736م) ثم القاجاري (1789–1925م)، فقد كانت المناطق الخاضعة لسلطة فارس تُعرف بـ “الممالك المحروسة” أو “الإيالات”، مثل إيالة كردستان، إيالة بلوشستان، إيالة لورستان، وإيالة عربستان. تمتع الكثير من هذه الإيالات بدرجة من الحكم الذاتي، غير أن عربستان – بحكم خصوصيتها التاريخية وموقعها الجغرافي خارج قلب بلاد فارس – حظيت بوضع خاص وحقوق مغايرة، سواء في عهد الصفويين أو القاجاريين.

في المقابل، كانت المدن الأساسية في فارس مثل أصفهان، طهران، كرمان، همدان وكاشان تُسمى “ولايات”، وينتهي اسمها عادة بـ “ان” عوضاً عن “ستان”.

من المشعشعيين إلى الاحتلال الفارسي: تاريخ الأحواز وصراع النفوذ

على مدى قرون، نجحت الأحواز في الحفاظ على هويتها واستقلالها، خاصة في ظل حكم دول عربية مثل الدولة المشعشعية وعاصمتها الحويزة، والدولة الكعبية وعاصمتها القبان ثم الفلاحية. تاريخياً، كانت بلاد فارس تُعرف بأسماء أخرى مثل بلاد العجم وبرشيا، وهي أسماء تعكس تنوعاً ثقافياً وعرقياً واسعاً. وقد عرفت بحدودها التي تتنوع بين بلاد الهند شرقاً والإمبراطورية العثمانية غرباً، مروراً ببحر قزوين شمالاً.

تُعد فترات الحكم في بلاد فارس مثالاً على عدم الاستقرار السياسي. فعلى الرغم من تشكيل الدولة الصفوية وعاصمتها أصفهان، تفرقت السلطة بين عدة عواصم مختلفة، مثل شيراز في عهد كريم خان زند، حتى استقر الأمر في طهران تحت حكم القاجاريين. يعكس هذا التنقل بين العواصم الاضطراب السياسي وضعف الدولة منذ سقوط الصفويين عام 1722، وحتى انهيار القاجاريين في 1925، حيث شهدت البلاد حكومات من أصول غير فارسية، أثرت على قدرتها في السيطرة على أقاليمها.

أشار السير جون مالكوم، الضابط والدبلوماسي البريطاني، في كتابه “تاريخ بلاد فارس” الصادر عام 1800، إلى فراغ سياسي امتد لأكثر من سبعين عاماً، منذ وفاة آقا محمد خان قاجار، حيث غاب التوثيق لهذه الفترة عن المصادر الأجنبية وحتى الروايات الفارسية، ما يؤكد على غياب دولة فعلية في بلاد فارس خلال هذه الفترة.

في ظل هذه الظروف، برزت أهمية الأحواز في الاستراتيجيات الاقتصادية والسياسية للقوى الغربية، لا سيما بريطانيا والولايات المتحدة. فقد اعتبرت دراسة بريطانية تعود لعام 1958 أن احتياطات النفط في الأحواز تمثل أهمية قصوى، وأنها كانت داعماً مهماً لميزانية الحكومتين البريطانية والفارسية في مواجهة تزايد الصراعات العالمية على الموارد. بالنسبة لبريطانيا، اعتبرت الأحواز جزءاً من خط دفاع استراتيجي مهم، ما يفسر وضع المنطقة تحت سيطرة بلاد فارس عام 1925، في ظل سياسات التوازن الغربي تجاه القوى الصاعدة مثل روسيا والصين.

في عام 1956، أصدرت جبهة تحرير عربستان ميثاقها، وعقب ذلك أشار القنصل البريطاني في المحمرة إلى نقاط تاريخية هامة، مؤكداً أن عربستان كانت مشيخة عربية محمية من قبل بريطانيا، وأن الاحتلال الفارسي جاء في سياق اعتبارات سياسية متعلقة بالعلاقات الفارسية السوفييتية. كما أكد القنصل البريطاني أن السياسات الفارسية الإمبريالية أدت إلى زيادة معاناة الشعب العربي في الأحواز.

يعكس هذا السرد التاريخي طبيعة الصراع المستمر بين الهوية الوطنية للشعب الأحوازي والطموحات التوسعية لبلاد فارس، ويبرز الأثر العميق الذي خلفته الظروف الجغرافية والسياسية في مسار هذه الأحداث. وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي واجهها الشعب الأحوازي، إلا أن الرغبة في تحقيق تقرير المصير والحفاظ على الهوية لا تزال نابضة بالحياة، مما يضفي على هذا الصراع بُعداً هاماً في السياقين التاريخي والسياسي المعاصر.

مع صعود رضا شاه بهلوي (1925–1941م)، شهدت فارس تحوّلاً جذرياً نحو الدولة المركزية وتبني مشروع ‘الدولة-الأمة’، حيث ألغى رضا شاه نظام الإيالات والممالك شبه المستقلة، وضمّها إلى الإدارة المركزية، ثم غيّر تسميتها إلى محافظات تابعة لسلطته. رافق هذا التوحيد فرض اللغة الفارسية، وتهميش الهويات المحلية، وإلغاء التنوع الثقافي والقومي، ما ولّد أزمة هوية حادة في إيران، استمرت طوال القرن العشرين ولا تزال ماثلة حتى اليوم.

حول مفهوم ‘الدولة-الأمة’، وهو المفهوم الذي ظهر في أعقاب الثورة الفرنسية، وارتبط ببروز الهوية الوطنية كإطار موحِّد للشعوب داخل كيان سياسي واحد.

في التجربة الغربية، وعلى الرغم من التعقيدات، استطاع هذا النموذج أن يُنفَّذ بدرجة معقولة من النجاح؛ إذ تم توظيفه لتعزيز الانتماء الوطني، وتحقيق نوع من التكامل السياسي والثقافي بين مكونات المجتمع. لكن، حين ننظر إلى تجارب أخرى، نجد أن تطبيق هذا المفهوم لم يكن دائماً ناجحاً.

خذ مثلاً الحالة الإيرانية: لقد تم تبني مفهوم الدولة-الأمة هناك، لكن تنفيذه جاء بشكل أدى إلى نتائج عكسية. بدلاً من أن يُسهم في بناء وحدة وطنية عادلة ومتوازنة، تحوّل إلى أداة لفرض هيمنة ثقافية ولغوية وتاريخية لشعب واحد – وهو الشعب الفارسي – على بقية الشعوب والقوميات داخل البلاد، مثل الأذريين، العرب، الأكراد، القشقائین، اللور، الترکمان، والبلوش. هذا التطبيق القسري أدى إلى تهميش ثقافات غنية وعريقة، وتم التعامل مع التعددية وكأنها تهديد، لا مصدر قوة وتنوّع.

التنوع العرقي واللغوي في إيران

بالإضافة إلى الفرس، تضم إيران العديد من الشعوب الأخرى، بما في ذلك الأذريون، الأكراد، اللور، البلوش، العرب، والتركمان، وبالإضافة إلى أقليات أخرى مثل القشقائيين والآشوريين، والصابئة المندائيون واليهود والجورجيين، والأرمن.

فيما يلي تفصيل لبعض هذه الشعوب:

الأذريون:  يشكلون ثاني أكبر مجموعة عرقية في إيران، ويتحدثون اللغة التوركية الأذرية.

الأكراد:  يعيشون بشكل رئيسي في غرب إيران، ويتحدثون اللغة الكردية.

العرب:  يتواجدون في مناطق مختلفة، بما في ذلك جنوب إيران، ويتحدثون اللغة العربية.

اللور:  يسكنون جبال زاجروس وشمال شرق الأحواز، ويتحدثون لغة اللورية.

البلوش:  يعيشون في جنوب شرق إيران، ويتحدثون اللغة البلوشية.

التركمان:  يعيشون في شمال شرق إيران، ويتحدثون اللغة التركمانية.

القشقائيين: يقطنون اجزاء من محافظة فارس وجنوب شرق الأحواز ويتحدثون اللغة التوركية القشقاوية.

عرب خمسة: يقطنون اجزاء من محافظة فارس ويتحدثون اللغة العربية مع خليط من الفارسية.

عرب خراسان: يقطنون المناطق الجنوبية من خراسان ويتحدثون اللغة العربية مع خليط من الفارسية.

الآشوريون:  يعيشون في مناطق متفرقة، وهم من أقدم الشعوب في المنطقة، ويتحدثون اللغة الآرامية.

الصابئة المندائيون واليهود من أقدم شعوب المنطقة ويقطنون في الجنوب الغربي ويتحدثون باللغة المندائية والعبرية.

الأرمن:  يعيشون في إيران منذ قرون، ويتحدثون اللغة الأرمنية.

من المهم التمييز بين عربستان وخوزستان.

عربستان: إقليم عربي تقطنه غالبية عربية خالصة، باستثناء مدينتي ديزفول وتستر اللتين يقطنهما خليط من العرب والفرس، إضافة إلى أقلية من اللور. عام 1934 وبعد قرابة عقدا من الاحتلال الفارسي لعربستان وتثبيته، اجتزت المناطق الشمالية من عربستان والتي تقطنها قبائل بني لام العربية الى محافظة جديدة اسمها عيلام (ايلام بالفارسية) ، كما اجتزت مناطق ساحلية وجزر جنوبا وضمت إلى محافظة ابو شهر).

خوزستان الحديثة: تضم عربستان بعد ما فُصلت بعض المناطق العربية عنها، إلى جانب مناطق البختياريين واللور والقشقائيين (الترك)، وتمتد حدودها لتشمل مناطق غنية بالنفط والغاز.

يُعدّ العرب المكوّن السكاني الأبرز في إقليم الأحواز، حيث يشكّلون غالبية السكان منذ أقدم العصور. وقد كانت الأحواز – أو عربستان كما عُرفت تاريخياً – موطناً لقبائل عربية عريقة استوطنت المنطقة منذ العهد السامي وأسهمت في بناء حضارات ما بين النهرين. هذا الوجود العربي لم يكن نتيجة هجرة حديثة، بل امتداداً طبيعياً للبيئة الجغرافية والتاريخية التي تربط الأحواز بالعراق وبلاد الرافدين.

غير أن القرن العشرين شهد تحولات ديموغرافية واسعة في الأحواز، نتيجة السياسات التي انتهجتها الحكومات الإيرانية المتعاقبة، والتي تمثّلت في محاولات التهجير وإعادة توزيع السكان، إضافة إلى تشجيع الهجرات الداخلية من القوميات غير العربية نحو الإقليم. ورغم هذه السياسات، ما يزال العرب يشكّلون أغلبية سكان الأحواز، حيث تشير بعض الإحصاءات – الصادرة عام 2002 – إلى أن نسبتهم تصل إلى نحو 74% من إجمالي سكان الإقليم. في المقابل، تتحدث مصادر رسمية أخرى عن أن العرب في محافظة خوزستان (التي تضم الأحواز) يشكّلون أكثر من 7.7% من سكان إيران ككل، وهو رقم يُعتقد أنه أقل من الواقع بسبب غياب الإحصاءات الموثوقة.

وإلى جانب الأحواز، تنتشر جماعات عربية أخرى في إيران، مثل العرب المقيمين في خراسان شمال شرق البلاد، وفي كرمان، وكاشان، هؤلاء يعود وجودهم إلى فترات الفتح الإسلامي، حيث استقرت بعض القبائل العربية في تلك المناطق ولا تزال تحافظ على هويتها الثقافية عبر اللغة والزي والعادات. إضافة إلى ذلك يوجد العرب في محافظة هرمزغان (عرب الساحل) وأبو شهر ومحافظة عيلام (ايلام).

التحدي الأكبر في تحديد العدد الحقيقي للعرب في الأحواز يكمن في غياب بيانات رسمية دقيقة. ومع ذلك، يمكن الاعتماد على وثائق تاريخية، مثل إحصاء الجيش البريطاني لعام 1924، الذي قدّر عدد سكان عربستان – بشطريها الشمالي والجنوبي – بحوالي 400 ألف نسمة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار النمو السكاني للعراق المجاور، والذي ارتفع من 2,850,000 نسمة في عام 1924 إلى نحو 47 مليون نسمة اليوم، يمكن وضع تقدير تقريبي لعدد سكان الأحواز. فبناءً على معدل النمو السنوي المماثل للعراق، يُقدَّر عدد الأحوازيين اليوم بنحو 6.6 مليون نسمة، أي ما يقارب سبع مرات أقل من سكان العراق الحالي.

الوضع الراهن للأحواز

رغم أن الأحواز تنتج: أكثر من 80% من النفط الإيراني، المرتبة الثانية في إنتاج الغاز، المرتبة الأولى في الزراعة والبتروكيماويات، والمرتبة الأولى في إنتاج الكهرباء، إلا أنها تتصدر مؤشر البؤس في إيران، إذ سجلت مؤخراً المرتبة الأولى من حيث الفقر والبطالة، نتيجة السياسات المركزية وسوء الإدارة. ويطرح هذا تساؤلات جدية حول مستقبل الأحواز:

كيف يمكن أن تستمر سياسة التهميش في إقليم يملك هذه الموارد الضخمة؟ هل آن الأوان أن تستعيد الأحواز شيئاً من إدارتها الذاتية، أو أن يُعاد النظر في حقها بتقرير المصير؟

المراجع التاريخية:

  THE SHEIKH DOM OF MOHAMMERAH, The National Archives, London, Kew Ref: WO 106/5974

John Malcolm, History of Persia, 1800.

وثائق القنصلية البريطانية في الأحواز (1924–1925).

THE RAILWAY NEWS, 24 April 1915.

Western Morning News, 18 September 1941.

Linlithgowshire Gazette, 6 November 1925.

‘Military report on Arabistan (Area no 13)’

Ref: IOR/L/PS/20/C205

https://populationtoday.com/ar/iq-iraq/

رأيان حول “الأحواز.. ثروات منهوبة وشعب يطالب بحق تقرير المصير/ حامد الكناني

اضافة لك

اترك رداً على غير معروف إلغاء الرد

موقع ويب تم إنشاؤه بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑