الدور الخفي لروسيا في تمهيد الطريق لفقدان السيادة العربية بالأحواز: الجمارك الفارسية تحت إدارة البلجيكيين نموذجاً

مركز دراسات عربستان الأحواز- بحث وتدوين حامد الكناني- شهدت التجارة في نهر كارون منذ أواخر القرن التاسع عشر ضغوطاً متزايدة من الحكومة الفارسية، التي استخدمت حججاً واهية كالمجاعات لمنع تصدير الحبوب من المحمّرة. لكن التحول الأخطر جاء مع إدخال الإدارة البلجيكية للجمارك عام 1902، حيث أُغلقت محطتا تستر ومدينة الأحواز وأُجبرت جميع البضائع على التوقف في المحمّرة، حيث انتقلت نقاط الجمارك الفارسية من تستر ومدينة الأحواز إلى عاصمة إمارة المحمرة العربية في انتهاك صارخ للاتفاقيات السابقة وللسيادة العربية على المنطقة.

هذا التدخل لم يكن بلجيكياً صرفاً، بل كان وجهاً خفياً لنفوذ روسي متعاظم، إذ دفعت روسيا طهران نحو سياسة مركزية صارمة، لتأمين تحصيل ديونها من فارس، بينما أبقت نفسها بعيداً عن الواجهة لتجنّب ردود الفعل، تاركة البلجيكيين كستار إداري. ولم يعارضه الانجليز فحسب بل اوصوا امير الاحواز الذي رفض فكرة الجمارك الفارسية في بلاده بقوة، بقبول المشروع والتفاوض حوله.

ورغم أن الشيخ خزعل، فرض نفسه على مجلس إدارة الجمارك ونجح في البداية في إقرار شروط تخص طريقة العمل وتعيين الموظفين، إلا أن هذه الشروط ما لبثت أن تآكلت وتلاشت مع مرور الوقت، ليتأكد أن الهدف الحقيقي كان تقويض سلطته ونزع السيادة العربية تدريجياً عن الأحواز تحت غطاء “إصلاحات إدارية”.

وهكذا تحولت الجمارك من مجرد أداة تنظيم تجاري إلى وسيلة استراتيجية مهدت – بخبث روسي ، وسكوت انجليزي وتنفيذ بلجيكي – لفقدان العرب سيادتهم على أهم معابرهم الاقتصادية في الأحواز.

انقل لكم هنا ترجمة عربية للتقرير الذي كتبه فالنتين شيرول حول موضوع الجمارك البلجيكية والذي ينتقد فيه موقف الحكومة البريطانية آنذاك. التقرير كتب خلال رحلة عبر بلاد فارس والخليج العربي، والتي ظهرت تقريرها في التايمز في عامي 1902 و 1903. هذه التقارير دونها وطبعها جون موراي في لندن عام 1903.

طريق التجارة في نهر كارون

“لا يتورّع وزراء الشاه في طهران عن التدخّل، ودائماً ما يكون هناك مجاعة في جزء من أجزاء الإمبراطورية يمكن أن تُتَّخذ ذريعة ظاهرية لحظر التصدير، غير أنّه، في ظل وسائل المواصلات الحالية وتكاليف النقل الراهنة، لا يمكن للحظر المفروض على تصدير الحبوب من المحمّرة أن يخفّف من مجاعة في خراسان أو حتى في أصفهان، تماماً كما لا يمكن أن يخفّف من مجاعة في تمبكتو.

وللتوضيح يمكن ذكر الحادثة التالية: في يونيو/حزيران عام 1900 تلقّى التجار البريطانيون في المحمّرة، والذين سئموا من تقديم التماسات عقيمة، مفاجأة سارة حينما وصلهم إشعار رسمي من السفارة البريطانية في طهران يفيد بأن الحكومة الفارسية رفعت الحظر عن تصدير القمح من موانئ جنوب فارس. فسارعوا لشراء الحبوب من الأهالي على ضفاف نهر كارون، لكن السلطات العربية في الأحواز عاقبتهم على ذلك. وعندما رُفع الأمر إلى طهران واستُفسر عن سبب استثناء المحمّرة من رفع الحظر، جاء الجواب سريعاً بأن المحمّرة لم تُستثنَ، وأن أوامر صريحة ستصل خلال عشرة أيام لجميع المسؤولين المحليين لمنع أي مشاكل أخرى.

 وبناءً على هذه الوعود، أُبرمت صفقات شراء أكبر ودُفعت مبالغ طائلة مقدماً. لكن الأسابيع مرّت دون وصول أي أوامر، فيما ظل المسؤولون المحليون يمنعون نقل الحبوب. وبحلول أغسطس، اضطرت السفارة البريطانية للاعتراف بوجود “تعطيل” وأشارت إلى أن أفضل سبيل للتسوية هو التفاوض مباشرة مع حاكم عام عربستان (القصد من حاكم عام عربستان هنا هو حاكم الجزء الشمالي من عربستان والذي يقيم احيانا في مدينتي تستر والقنيطرة (ديزفول) والذي يعد حاكما رمزيا، حيث المدينتين خاضعتين اداريا للشيخ خزعل بن جابر)، الذي كان العقبة الأساسية، والذي رفض الامتثال لأوامر طهران بحجة غياب الشاه الذي كان في أوروبا. غير أن هذا الحل كان مستحيلاً عملياً، إذ كان الحاكم يقيم في بروجرد، على بُعد رحلة تستغرق أسبوعين عن تستر، في منطقة معروفة بصعوبة المواصلات وعدم أمانها.

وفي الوقت ذاته، كانت السلطات الاحوازية تمنع التجار البريطانيين من نقل الحبوب، بينما تُجبرهم في الوقت نفسه – نيابةً عن المزارعين – على دفع باقي ثمن الشراء! ولم يبق أمام المشترين سوى بيع بضاعتهم في السوق المحلي بأقل الخسائر، وإلغاء جميع الترتيبات الخاصة بالنقل والشحن. وبعد أن أتمّ الحاكم العام لعربستان وأعوانه في طهران عملية “الابتزاز”، اكتملت المهزلة حينما أرسلت الحكومة الفارسية بلاغاً رسمياً إلى السفارة البريطانية تؤكد فيه أن أوامر صارمة قد صدرت للسماح بتصدير الكميات التي اشتراها التجار البريطانيون. وسرعان ما أعلنت السفارة أنها نجحت أخيراً بعد جهودها المتواصلة، في إعلان بدا ساذجاً أمام التجار الذين كانوا قد تكبّدوا خسائرهم بالفعل قبل وصوله.

ويُحسب للبريطانيين صبرهم وإصرارهم على التمسك بالتجارة عبر كارون لسنوات طويلة رغم الظروف المثبطة. إذ لم تكفِ التعويضات السنوية البسيطة التي منحتها الحكومتان البريطانية والهندية لشركة لينش لمواصلة نشاطها الريادي لتغطية حتى عجز الملاحة بين المحمّرة والأحواز، فضلاً عن ديون الشاه المتعلقة بالملاحة في المجرى الأعلى بين الأحواز وتستر. ومع ذلك، ورغم التكاليف الباهظة من المال والجهد، تحقق بعض التقدم. فالتجارة الخارجية لنهر كارون التي لم تتجاوز قيمتها 16 ألف جنيه إسترليني عام 1891، بلغت في عام 1902 ما مجموعه 271,732 جنيهاً، على الرغم من الأزمات الناجمة عن المحاصيل السيئة وغيرها من الظروف السلبية. كما ارتفع حجم الشحن الأجنبي في ميناء المحمّرة من 135 ألف طن إلى أكثر من 240 ألف طن خلال الفترة نفسها، منها 95% سفن بريطانية. وزاد عدد سكان المحمّرة من نحو 2,500 إلى أكثر من 7,000، وظهرت عند مدينة الأحواز مستوطنة جديدة بالكامل تدعى بندر ناصري عند نهاية الملاحة النهرية. وهي وإن بدت بدايات متواضعة، إلا أنها تعد مشجعة بالنظر إلى العقبات الهائلة. ومع ذلك، وفي لحظة كان من المفترض أن تحظى التجارة على كارون بدفعة جديدة بفضل تحسين وسائل الاتصال بالأسواق الداخلية، هددت الحكومة الفارسية بتوجيه ضربة جديدة وقاسية لها.

ففي خريف 1902، وبجرّة قلم دون سابق إنذار، حاولت الإدارة البلجيكية الجديدة للجمارك الفارسية أن تُحدث ثورة في النظام الجمركي في الأحواز. فمنذ فتح النهر للملاحة عام 1888، تم توحيد جباية الرسوم الجمركية في ثلاث محطات: المحمّرة، الأحواز، وتستر. وكان يمكن شحن البضائع مباشرة إلى أي من هذه الموانئ مع دفع الرسوم عندها. وكان التجار المحليون يقدّرون هذه الترتيبات، التي كانت تقريباً التنازل العملي الوحيد الممنوح لهم من الحكومة الفارسية. وعندما أبرمت شركة لينش عام 1890 اتفاقاً مع الحكومة الفارسية لتشغيل البواخر في المجرى الأعلى للنهر، أصرّت على تضمين بند يحافظ على هذه المحطات الجمركية الثلاث، وهو تعهّد وقّعه أمين السلطنة (الذي أصبح لاحقاً أتابك أعظم) في مذكرة رسمية أعدها السير هنري دروموند وولف بتاريخ 14 فبراير 1890. لكن الإدارة البلجيكية الجديدة انتهكت هذا الاتفاق، وأغلقت محطتي تستر ومدينة الأحواز، وأجبرت جميع البضائع على التوقف في المحمّرة لدفع الرسوم، ما سبب شللاً تاماً في حركة التجارة لأكثر من شهر، قبل أن يتم التوصل إلى حل مؤقت تحت ضغط شديد.

ولم تكن المسألة تجارية فقط، بل سياسية أيضاً. ففي المحمّرة، كما في موانئ الخليج العربي الأخرى، اعتُبر إنشاء الإدارة الجمركية الجديدة جزءاً من سياسة مركزية شاملة انتهجتها طهران بتحريض من روسيا. فقد كان النظام السابق يتيح للسلطات المحلية جباية الرسوم أو تأجيرها لمتعهدين، مما يتيح لهم قدراً واسعاً من الاستقلالية. وفي المحمّرة خاصة، كانت سلطة الشيخ خزعل بن جابر الزعيم العربي المسيطرة على كارون وشط العرب، أشبه بسلطة حاكم شبه مستقل لا مجرّد والٍ معيّن من الشاه.

وكان إدخال إدارة مركزية قوية تُدار مباشرة من طهران وتتحكم بموارد مالية مهمة يُعتبر في نظره، وفي نظر الأهالي عامة، اعتداءً خطيراً على سلطته. وقد بدا في البداية غير ميّال للخضوع بسهولة. وكان العرب في جنوب غرب فارس، مثل البختياريين، يرون في النفوذ البريطاني توازناً أمام نزعة طهران المركزية، ولم يسعَ أحد وراء الصداقة البريطانية أكثر من الشيخ خزعل، الذي كان قد شهد بنفسه البوارج البريطانية تصعد نهر كارون والجنود الهنود يحتلون المحمّرة والأحواز خلال حملة 1857. لو تلقى أدنى تشجيع منا ، لكانت الإدارة البلجيكية الجديدة بالتأكيد قد واجهت بعض الصعوبة في الحصول على الاعتراف من قبله، حيث أن إكراه زعيم عربي يسيطر على قبائل قوية في بلد عرضة للخروج على القانون هو مهمة لم يكن من المحتمل أن تدخل فيها طهران باستخفاف ، خاصة عندما يكون هذا الزعيم ،  بعد أن تزوج أميرة فارسية ، كون صداقات لنفسه في البلاط. وعلاوة على ذلك، إذا كان يدرك أن إنشاء إدارة بلجيكية للجمارك، ليس فقط في المحمرة، ولكن في جميع موانئ الخليج، يمكن اعتباره انتهاكا للالتزام الذي دخلت فيه الحكومة الفارسية بعدم وضع جمارك جنوب بلاد فارس تحت إشراف أجنبي، فربما كان كذلك:  يحق لنا أن يتوقع دعمنا.

ومع ذلك ، كان ردنا الوحيد هو أنه من الأفضل أن يتوصل إلى ترتيب ودي مع البلجيكيين. لقد فعل هذا ، والترتيب ليس ضارا له ماليا. ولكن ما إذا كانت نصيحتنا مستساغة هو سؤال آخر. من المؤكد أن الاستنتاجات التي استخلصها منها ليست مبهجة لأولئك الذين قدموها. حيث لم يكن هناك تأثير أجنبي من أي نوع في السابق باستثناء تلك القنصليات بما في ذلك القنصلية الروسية العامة الجديدة في الأحواز ، حيث المصالح الروسية في الوقت الحالي معدومة على الإطلاق – رحلات العملاء الروس ، ورحلات رجال الحرب الروس ، ومشاريع السفن التجارية الروسية ، والتي ، في الخليج العربي كما في أي مكان آخر ، تشير جميعها إلى صعود النجم الجديد في الشمال.”

تحليل الوثيقة يظهر عدة نقاط أساسية تتعلق بالسيادة العربية في الأحواز وكيف تأثرت بعلاقات الأمير خزعل مع بريطانيا، بالإضافة إلى الدور الروسي والبلجيكي في تقويض هذه السيادة:

  • السيادة العربية في الأحواز قبل تدخل الجمارك البلجيكية
  • الأحواز كانت تحت سيطرة الشيخ خزعل بن جابر كأمير عربي شبه مستقل، يسيطر على أهم المعابر الاقتصادية مثل نهر كارون.
  • السلطة العربية كانت تمتلك قدرة على إدارة الجمارك أو تعيين متعهدين، ما منحها استقلالية مالية وإدارية.
  • الاتفاقيات السابقة مع الحكومة الفارسية، مثل مذكرة 1890، كانت تحفظ حق السلطات العربية في إدارة الموانئ الثلاثة: المحمرة، الأحواز، وتستر.
  • قبول امير الأحواز بإشراف بلجيكي أدى في النهاية إلى خسارة فعالية سيطرته على التجارة والموارد الاقتصادية. حولت النقاط الاقتصادية الحيوية من تحت سيطرة العرب إلى سيطرة مركزية فارسية، مدعومة روسياً.
  • الإصرار البريطاني على التجارة لم يكن كافياً لردع التدخل الفارسي الروسي، ولكنه حافظ على مصالح تجارية محدودة، بينما فقد العرب تدريجياً سيادتهم على مواردهم وموانئهم.

صداقات الشيخ خزعل بن جابر مع بريطانيا لم تمنعه من تآكل سلطته والسيطرة على الأحواز، بل ساهمت في أن يصبح ضحية سياسات القوى الكبرى التي كانت تلعب بالأوراق خلف الكواليس. التقرير يظهر أن الأحواز فقدت سيادتها تدريجياً بسبب مزيج من النفوذ الروسي الخفي، تدخل البلجيكيين كواجهة إدارية، وصمت أو نصائح بريطانيا التي كانت صديقاً للأمير خزعل. ما بدا إصلاحاً إدارياً كان في الحقيقة وسيلة استراتيجية للسيطرة على أهم موانئ العرب وثرواتهم، مع إبقاء القوى الكبرى خارج المواجهة المباشرة.

تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.

موقع ويب تم إنشاؤه بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑