حين تتحدث الجغرافيا بلسان واحد: رحلة الأسماء في ذاكرة العرب بين الأحواز والمحيط العربي/ حامد الكناني

في تاريخ الشعوب، قد تهاجر الأسماء كما تهاجر القبائل، حاملة معها عبق الهوية وذاكرة المكان. وفي الجغرافيا العربية، تتكرر أسماء المدن والسهول والقرى عبر البلدان، وكأنها خيوط منسوجة تربط ماضي العرب بحاضرهم، من الأحواز إلى العراق، ومن البحرين إلى السعودية، وحتى إلى مناطق في إيران الحالية. هذه الظاهرة التي يمكن أن نطلق عليها “هجرة الأسماء” ليست مجرد مصادفة لغوية، بل تعبير عن وحدة ثقافية وجغرافية عميقة تمتد على مدى قرون.

الأحواز العربي، بما يضم من سهول ومدن، يمثل مثالاً بارزاً على تشابه وتكرار الأسماء في المحيط العربي. ففي الأحواز نجد مدينة البسيتين، وهي تسمية تتكرر أيضاً في مملكة البحرين والمملكة العربية السعودية، وكأنها تذكير بأن أصول هذه الأرض جزء لا يتجزأ من النسيج العربي. كذلك نجد اسم ميسان، الذي له امتداد تاريخي في العراق، ووجود في السعودية، بل وحتى في بعض المناطق داخل إيران، ما يجعل هذا الاسم مرآة لعراقة التاريخ وعمق الجذور العربية.

ميسان في العراق… إرث مملكة قديمة

تقع محافظة ميسان شرق العراق على ضفاف نهر دجلة، وتجاور الحدود الإيرانية. يعود اسمها إلى مملكة “ميسان” التاريخية، وقد تحوّل عبر العصور ليصبح ميسان. قبل عام 1976، كانت تعرف بمحافظة العمارة.
اختارها الإسكندر الأكبر يوماً ما لتكون عاصمة لمملكته بفضل موقعها الاستراتيجي الذي جعلها مركزاً للتجارة والنقل. عُرفت أيضاً بـ “كورات دجلة”، أي “مجموعة القرى الممتدة على جانبي النهر”، ما يعكس ارتباطها الدائم بالماء والزراعة، وهما روح الحضارة في بلاد الرافدين.

ميسان في السعودية… امتداد الأسماء في الجزيرة العربية

في منطقة مكة المكرمة غرب المملكة العربية السعودية، نجد محافظة ميسان، التي يبلغ عدد سكانها نحو 28,765 نسمة وفق إحصاء 2022. تقع على بعد 190 كلم شرق مكة المكرمة، وتعدّ من المحافظات الأقل كثافة سكانية، لكنها ذات أهمية جغرافية كبيرة.
يربطها الطريق الرئيسي 15 الذي يصل بين جنوب وشمال المملكة، ويخدمها مطار الطائف الدولي القريب، ما يجعلها محطة مهمة للتنقل والتجارة في المنطقة.

سهل ميسان في همدان – إيران

يظهر اسم ميسان أيضاً في دشت ميسان القابع عند سفوح جبل الوند في مدينة همدان الإيرانية، وهو سهل فسيح يكسوه الخضار وتحيط به مناظر طبيعية فاتنة، من ينابيع ماء باردة، ومروج غنية بالأزهار البرية، ما جعله وجهة مفضلة لعشاق المشي الجبلي والاستجمام بين أحضان الطبيعة.
لكن هذا السهل لا يقتصر على جماله الطبيعي، بل يجاوره عبق التاريخ متمثلاً في نقوش “گنجنامه” الهخامنشية الشهيرة، المنحوتة على صخور شاهقة بخطوط ثلاث لغات قديمة: الفارسية القديمة، والعيلامية، والبابلية. إن وجود اللغتين العيلامية والبابلية في هذه النقوش يثير تساؤلات عن جذور التسمية، ويعزز فرضية أن اسم ميسان قد يكون مهاجراً إلى هذا الموقع، نتيجة التداخل التاريخي والحضاري بين عرب ميسان في الأحواز وبلاد بابل القديمة، وانتقال الأسماء مع القوافل والشعوب عبر الزمن إلى عمق بلاد فارس.

سهل ميسان في الأحواز… دشت آزادجان

في قلب الأحواز العربي، نجد دشت ميسان، الذي كان يعرف في الماضي بـ”سهل ميسان”، قبل أن يُطلق عليه رسمياً اسم دشت آزادگان (سهل الأحرار) بعد الحرب الإيرانية العراقية.
تأسس هذا السهل كمقاطعة عام 1323هـ، ويقطنه أكثر من 107 آلاف نسمة، معظمهم من العرب الناطقين بالعربية.
مركزه الرئيسي مدينة الخفاجية (سوسنگرد)، التي عاشت لحظات بطولية خلال الحرب العراقية الإيرانية، إذ كانت من أولى المناطق التي تعرضت لنيران الحرب والنزوح الجماعي والدمار الشامل.
تاريخياً، كانت هذه الأرض جزءاً من إقليم ميسان التاريخي، الذي امتد بين ضفاف دجلة وكارون، وارتبط بمناطق مثل واسط والبصرة، ما يبرز وحدة الامتداد العربي عبر الجغرافيا.

إن تكرار اسم ميسان في العراق والسعودية والأحواز، وكذلك وجود أسماء مثل البسيتين في أكثر من بقعة عربية، ليس أمراً عفوياً. إنه دليل على أن الأسماء هاجرت كما تنقلت العرب في محيطهم، وحملوا معهم ذاكرتهم وهويتهم المتجذّرة.
الأسماء ليست مجرد علامات جغرافية، بل هي شواهد على التاريخ العربي المشترك، وعلى وحدة الثقافة واللغة التي لم تستطع الحدود السياسية ولا تحولات الزمان أن تمحوها.

ليست الأحواز فريدة في هذا التداخل اللغوي، فاسمها ذاته موجود في دول عربية أخرى، مثل المغرب وتونس. ويُقال إن العاصمة التونسية وُصفت بـ “العاصمة الخضراء” لوفرة بساتينها، على نحو يذكّر بمعنى “الأحواز” في العربية، التي تعني الأراضي الخضراء المحوّطة أو الحيازات الزراعية. وفي الأحواز، ما زال اسم “الحوز” يُطلق على بساتين النخيل الممتدة على ضفاف شط العرب، كما نجد اسم الحويزة، الذي هو تصغير لكلمة “الحوزة”، وقد تغيّر نطقه إلى “هويزة” بفعل اللهجة العجمية الفارسية.

مرّ اسم الأحواز بتغييرات عدة في نطقه وكتابته عبر العصور، خصوصًا مع سيطرة الفرس على المنطقة. فقد أطلق الآشوريون في العهد القديم لفظًا قريبًا من “الأخواز”، بسبب اختلاف نطق الحرف (ح) في لغتهم، حيث كان يُنطق (خ). واستمر هذا التحريف في اللغات المندائية والآرامية القديمة، ليُصبح شائعًا بين الغزاة الفرس لاحقًا. ومع قيام الدولة الساسانية، أُطلق على المنطقة اسم “خوزستان”، أي أرض الخوزيين، وهو تعبير فارسي عن أرض الأحوازيين.

أما في العصر الصفوي، فقد تم الاعتراف بوجود العرب في المنطقة، فاستُخدم اسم “عربستان”، وهي تسمية واضحة الهوية، وانتقلت تسمية عربستان للعهد القاجاري قبل أن يُعاد فرض اسم “خوزستان” مجددًا في العصر الحديث.

يُلاحظ أن نهايات أسماء المناطق الإيرانية تحمل دلالات قومية واضحة، فالأراضي ذات الأغلبية غير الفارسية تنتهي عادة بـ “ستان” (مثل خوزستان، كردستان، بلوشستان، سيستان، تركمانستان، ولورستان)، وهي لاحقة فارسية تعني “أرض” أو “دولة”. أما المدن والمناطق ذات الطابع الفارسي الخالص، فغالبًا ما تنتهي بـ “ان” (مثل طهران، أصفهان، كاشان، همدان). هذه الفروقات اللغوية ليست محض مصادفة، بل تعكس البنية السياسية والثقافية التي قامت عليها الدولة الفارسية في مراحلها التاريخية.

الأسماء هي ذاكرة الأوطان، تحفظ حكايات الأرض وأهلها. وفي الأحواز، كما في العراق والسعودية، تعكس هذه الأسماء العروبة العميقة التي ما زالت تنبض في كل زاوية.
إن حماية هذه الأسماء من الاندثار ليست مجرد عمل ثقافي، بل هي حماية لهوية أمة تمتد جذورها عبر العصور. قد تتغير الخرائط، لكن أسماء مثل ميسان والبسيتين ستبقى شاهدة على أن العرب، مهما اختلفت أماكنهم، يتحدثون لغة واحدة ويحملون ذاكرة واحدة.

تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.

موقع ويب تم إنشاؤه بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑