
عند تأمل مسار السياسات البريطانية في عهد الإستعمار في الشرق الأوسط خلال القرن العشرين، يتضح أنّها تركت بصمات عميقة لا تزال آثارها قائمة حتى اليوم. ومن أبرز هذه المحطات وعد بلفور عام 1917، حين منحت بريطانيا أرض فلسطين للحركة الصهيونية لتأسيس وطن قومي لليهود، متجاهلة الحقوق التاريخية والسياسية للشعب الفلسطيني. وبعد أكثر من قرن من الزمن، تعلن بريطانيا اعترافها بدولة فلسطين وتقرّ بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.
وفي السياق ذاته، تبرز قضية الأحواز (عربستان) بوصفها مثالًا آخر على السياسات البريطانية في تلك الحقبة. فبعد أن قدّمت الحكومة البريطانية وعودًا وضمانات مكتوبة للشيخ خزعل، سرعان ما نكثت بها، واعتمدت الخطة البديلة التي وضعها السير بيرسي لورين، ليتم في عام 1925 تسليم الأحواز إلى إيران. وبهذا القرار حُرم الشعب الأحوازي من حقوقه القومية والسياسية والمدنية. وهنا يبرز السؤال: إذا كانت بريطانيا قد راجعت نفسها بعد قرن من وعد بلفور تجاه فلسطين، فهل يمكن أن تعيد النظر في موقفها من قضية الأحواز وتقرّ بحق هذا الشعب في الحرية والحياة الكريمة؟
صدر وعد بلفور في 2 نوفمبر 1917 على شكل رسالة من وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور إلى اللورد روتشيلد، أحد قادة الحركة الصهيونية، ونصّ على تأييد إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، مع الإشارة الشكلية إلى عدم المساس بحقوق السكان الأصليين غير اليهود. غير أنّ هذا الوعد كان الشرارة الأولى للمأساة الفلسطينية، إذ فتح الباب أمام الهجرة اليهودية المنظمة، ورسّخ النفوذ الصهيوني بدعم بريطاني مباشر. ومع مرور العقود، تحول الوعد إلى واقع سياسي بإعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948 على أنقاض الشعب الفلسطيني. واليوم، وبعد أكثر من قرن، يأتي اعتراف بريطانيا وعدد متزايد من الدول الأوروبية بدولة فلسطين كمحاولة متأخرة لتصحيح خطأ تاريخي.
أما قضية الأحواز، فهي لا تقل أهمية في سياق السياسات البريطانية بالمنطقة. فالأحواز أرض عربية على ضفاف الخليج العربي، حكمها الشيخ خزعل بن جابر حتى عام 1925، حين سلّمتها بريطانيا إلى إيران بقيادة رضا خان بهلوي. وقد جاء هذا القرار نتيجة لحسابات سياسية واستراتيجية مرتبطة بأمن النفط وضمان المصالح البريطانية في الخليج. لكن هذه الخطوة شكّلت بداية مأساوية للشعب الأحوازي، إذ فقد سيادته وتعرضت هويته العربية لمحاولات محو متعمد، شملت اللغة والثقافة إلى جانب سياسات التهميش والتمييز والتهجير والتغيير الديموغرافي الممنهج. ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف الشعب الأحوازي عن النضال من أجل الحفاظ على هويته وانتزاع حقوقه المشروعة.
ومن هذا المنطلق، تتقاطع القضيتان الفلسطينية والأحوازية في نقاط عديدة؛ أبرزها أنّ الاستعمار البريطاني لعب دورًا محوريًا في تغيير مصير هذين الشعبين وتسليم أوطانهم في إطار ترتيبات سياسية تخدم مصالحه الاستعمارية الخاصة، وهو ما أسس لمعاناة مستمرة وحرمان طويل من حق تقرير المصير. وإن كان اعتراف بريطانيا بدولة فلسطين بعد قرن من وعد بلفور يُقرأ على أنه مراجعة متأخرة لسياسة استعمارية جائرة، فإن السؤال يبقى قائمًا: هل ستراجع بريطانيا يومًا موقفها من قضية الأحواز؟
قد تبدو الإجابة معقدة في ظل المصالح الاستراتيجية الراهنة بين بريطانيا والغرب من جهة وإيران من جهة أخرى، حيث يُنظر إلى إيران باعتبارها شريكًا ضروريًا في معادلة الأمن الإقليمي، رغم كل التباينات. غير أنّ مسار التاريخ يثبت أن القضايا العادلة لا تموت، وأن الاعتراف بالحقوق قد يتأخر لكنه يفرض نفسه في النهاية. وتجربتا فلسطين والأحواز خير دليل على أن السياسات الاستعمارية قد تفرض وقائع على الأرض، لكنها عاجزة عن طمس هوية الشعوب أو إلغاء حقها في الحرية وتقرير المصير.
نحن لا نحمل الحكومة البريطانية الحالية مسؤولية ما ارتُكب في الماضي تجاه القضيتين الفلسطينية والأحوازية، بل نقدّر شجاعتها في اتخاذ الموقف الصحيح حيال فلسطين، ونأمل أن تلتفت إلى ما يعانيه الشعب الأحوازي، وهو من أقدم الشعوب العربية التي بنت علاقات استراتيجية مع لندن. ولعلّ في منح بريطانيا أمير الأحواز الشرعي، الشيخ خزعل بن جابر، أعلى الأوسمة والتكريم دليل على عمق تلك الصداقة التاريخية.
وإذا كان اعتراف الحكومة البريطانية بدولة فلسطين خطوة في الاتجاه الصحيح، فإنّ مسؤوليتها الإنسانية تجاه الأحواز ما تزال قائمة. فمراجعة لندن لمواقفها من هذه القضايا لن تكون مجرد اعتراف رمزي، بل قد تمثل بداية مسار جديد يعيد للشعوب حقها في الكرامة والحرية، ويسهم في تصحيح بعض من أخطاء الماضي الاستعماري. وما حدث مع فلسطين قد يكون مؤشرًا على أن التاريخ، مهما طال، سيظل قادرًا على فتح الباب لإنصاف الأحواز.
تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.