كيف تصوغ الأنظمة الاستبدادية خصائص الشعوب التي ترزح تحت وطأتها؟/ بقلم: حمزة الحصن

ألإستبداد بالمعنى اللغوي هو الإنفراد بالشيء، أي إذا قلنا استبد فلان برأيه يعني أنه انفرد برأيه مستقلا ولم يقبل رأي أحد غيره، وإستبداد الفرد بالسلطة يعني إنفراده بالسطلة دون غيره. (1) عندما نتكلم عن الأنظمة الاستبدادية غالبا ما يثير حفيظة الناس هو ما تقوم به هذه الأنظمة من أعمال عنف بحق الشعوب، كالإعدام والسجن والتعذيب والخطف والإرعاب و.. لكن أهذا جل ما تقوم به هذه الأنظمة من ظلم واضطها؟ أم تنحصر تأثيرات أعمال العنف هذه على الضحايا وحدهم دون أن تمتد للشعوب؟

في بادي الأمر إذا أمعنا النظر في مفهوم الإستبداد هذا، لوجدنا أنفسنا أمام طيفين  أو طرفي نزاع، الأول:هو الطرف الذي يرغب بالانفراد بأمر ما(كالسلطة مثلا)، والثاني:هو الطرف الذي يقبل ويرضخ لهذا الإنفراد من قبل الطرف السابق طوعا كان أم كرها. فإذن لا يمكننا أن نتصور الإستبداد بالسلطة من قبل فرد أو جماعة من الأفراد إلا وأن نتصور الطرف المحكوم في هذة القضية، وكيف لا يتمكن الحاكم من إرساء شرعيته وقوته إلا عبر رضوخ المحكوم وإنصياعه بين يديه، فهل يا ترى يأتي هذا الانصياع دون ضرر مشهود بالنسبة للطرف الثاني؟ من أجل أن نجيب على هذة الأسئلة علينا أن نتحرى قليلا حول الأنظمة الاستبدادية وطبيعتها، الأنظمة الاستبدادية أيا كان نوعها شمولية ،عسكرية، ذات الحزب الواحد أو ملكية مطلقة و..، كلها تشترك في روح الاستبداد التي تتحكم بطبيعة الفرد أو الأفراد الذين يتقلدون زمام الأمور في هذة الأنظمة، هذه الروح التي تدفعهم إلى ترسيخ ما يظنونه صحيحا ،بكل الوسائل المتاحة، في عقول الناس وعادة العنف هو الوسيلة الأبرز في عملية الترسيخ هذه.

في الأنظمة الاستبدادية الزعماء والقادة ومن يناصرهم هم من يملك حق التعبير عن الرأي فقط فبمر الزمان تجدهم أكثر لباقة وأكثر ثقة بأنفسهم إذ لا يوجد من يعارضهم ويفند آرائهم ،وسرعان ما يفتتن العامة بهؤلاء وما تؤول إليه خطاباتهم من جزمية مطلقة، حيث تقول《 حنا أرنت》 الباحثة الإجتماعية الألمانية معلقة حول افتتان الشعوب والعامة بهؤلاء الأفراد وجزميتهم عند النطق:《الإفتتان هو ظاهرة اجتماعية ،إن المجتمع ميلا (مستعدا )دائما إلى قبول امرئ لما يدعي كونه(أي يضع نفسه بمكانة المدعي )،بالدرجة الأولى ،بحيث أن مجنونا يفترض نفسه عبقريا قد يكون له الحظ في أن يصدقه الناس ،إن افتقاد المجتمع المعاصرإلى المقدرة على التمييز ما مكن هذا الميل بحيث لو أن امرئ قدم أفكاره في نبرة من القناعة الراسخة صار من الصعوبة بمكان أن يفقد هيبته، رغم توالي أخطائه المريبة》.(2) فبالواقع افتتان الناس العامة بهؤلاء يعني إرساء شرعيتهم وتمهيد الطريق إلى ممارسة استبدادهم بالسطلة فيرتكبون الجرائم دون واعز من ضمير والأسوأ تجدهم يتفاخرون بهذا الأمر فلذلك الأمر تقول《 حنا ارنت 》عنهم واصفة النازيين كمثال:تجدهم متفاخرين بجرائمهم الماضية معلنين بالتفصيل  عن جرائمهم الآتية لقد كان النازيون 《على قناعة من أن الشر يمارس في عصرنا قوة جذب مرضية》وتقول مضيفة إن افتتان الدهماء(المتخلفين )بالشر والجريمة إفتتانا أكيدا ليس بالأمر الجديد إذ لطالما ثبت أن الرعاع يرحبون 《بأعمال العنف قائلين بإعجاب لأن كان غير جميل فإنه بالغ القوة بالتأكيد 》.(3) وهذه النظرة من قبل العامة تعينهم على الإستمرار  بالسلطة التي تعني حرمان الناس من ممارسة حياتهم السياسية وإبعادهم عن السير وراء مصالحهم المشتركة، والأهم من ذلك منعهم من بناء الروح الجماعية عبر العمل الجماعي لتحقيق المصالح المشتركة ،وأن لا يكون لهم الحق في التعبير عن الرأي وهذا ما يضعف حجتهم أمام المستبد فتجدهم سرعان ما ينهارون في أي مقابلة تكون بينهم حتى يصدق الناس بعد فترة من الزمن بأن سلطان هؤلاء هو قدر من الله أنزله وأنهم الأجدر بهذه المكانة. وخطر الأنظمة الاستبدادية على الشعوب لا يقف عند هذا الحد فتوالي هذه الأنظمة  يؤدي إلى خلق وغرس بعض الطبائع في هذه الشعوب ،طبائع  تصبح من ضمن خصائصهم ويمتد أثرها إلى فترة ما بعد عصر  الإستبداد أيضا(إن رحلت هذه الأنظمة واستبدلت بأنظمة ديمقراطية أو أقل استبدادا )…خصائص كالتبعية العمياء ،اللامبالاة ،الاستسلام المفرط ،الإنفعال ،ازدواجية المعايير ،الرضوخ أمام الأقوى ،إضطهاد الأضعف و…. .

هذا ما تغرسه  الأنظمة المستبدة في وجود الشعوب عبر 《الإرعاب》 وعندما تتبدد هذه الأنظمة تترك وراءها شعوبا خاوية ،متذللة ،فاقدة لعنصر الأخلاق  تنهش بعضها البعض ما إن تحس بعدم وجود قوة مستبدة تكبح جماحهم إلى درجة يتمنى فيها الكثير عودة الحاكم المستبد كما حصل في العراق بعد فترة يسيرة من رحيل النظام البعثي. ولربما أبرز مثال على ذلك هو ما آلت إليه الأمور في سوريا من قتل وسلب وتعذيب ومتاجرة بالصبيات و…بعد أن فقد النظام المستبد سيطرته على جزء كبير من سوريا، وكلما أتذكر هذا الوضع يرجع بي الزمن إلي ما قبل هذه الأحداث ببضع سنين إذ شاهدت لقاءا لأحد أبرز الممثلين السوريين 《عباس النوري》وكان هذا اللقاء عقب تأديته الدور الأول في مسلسل 《ليالي الصالحية 》الذي لاقى اعجابا واسعا على الصعيد العربي والذي كان يناقش بعض القيم الأخلاقية كالوفاء بالعهد والصدق وحفظ الأمانةو… إذ قال آنذاك  وهو يقيس بين المجتمعات الغربية والمجتمع السوري:《إن المجتمعات الغربية يتحكم فيها القانون دون الأخلاق والمجتمع السوري يتحكم فيه القانون والأخلاق معا ،فإذا سقط القانون في الغرب ستعم الفوضى وتسود الجريمة وسرعان ما تنهار هذه المجتمعات ولكن إذا سقط القانون في سوريا فيأتي الأخلاق ليحل مكانه ويحفظ هذا الثاني توازن المجتمع 》.لربما كان عباس النوري صادقا في اعتقادة ،ولكن اعتقادة هذا لم يكن ليطابق الواقع بالنسبة لكيلا الطرفين ،وإذا ألقيتا الضوء على تاريخ  أحد الطرفين أي《 سوريا》لوجدنا أن الشعب السوري عاش في كنف الأنظمة الاستبدادية لمدى قرون وكان النظام الأخير هو الأسوأ من نوعه ،فتوالي هذه الأنظمة ترك أثره إذ أضعف عنصر الأخلاق ،والإنسانية وأمات روح الحوار والوئام ولذلك وللأسف ما حصل في سوريا هو عكس ما كان يتصوره《 عباس النوري 》.(4)

حتى الآن يتضح لنا قليلا كيف تصوغ هذه الأنظمة خصائص الشعوب ومن أجل أن يتضح الأمر أكثر لابد من الإجابة على أسئلتنا ؛أن ما تقوم به هذه الأنظمة من ظلم يتجاوز المشانق وأسياط الجلادين وقضبان السجون ليطبع 《الجهل》 على قلوب الناس وهذا هو 《الظلم الأكبر 》ولا يأتي هذا إلا عبر  إقصائهم عن ممارسة الحياة السياسية التي من شأنها أن يتعرف الفرد من خلاها على الإتجاهات والقيم السياسية السائدة في البلد ،ويقوم بنقدها وتهذيبها ،وأيضا عبر إقصائهم عن تنمية الشعور الاجتماعي الذي من شأنه أن يكسب المجتمع التماسك والتعاضد في كل الأحوال ،وبإقصائهم عن أي مشاركة في تقرير مصير البلاد الذي من شأنها أن تخلق الحس بالمسؤولية والاهتمام بالآخرين. بالتأكيد هذا《 الظلم 》هو أفضع بكثير من ممارسة 《 العنف العلني 》،إذ أن هذا العنف ليس إلا وسيلة لتمكن الأنظمة المستبدة من إقصاء الشعوب عن ممارسة حقوقهم التي تجعلهم أحياءا. وبالنسبة للسؤال الثاني ،أعمال العنف هذه لا تنحصر تأثيراتها على الضحايا فقط بل تمتد إلى كافة أفراد المجتمع وذلك من خلال إرساء الخوف في قلوبهم، إذ أن الناس يخشون أن يلاقوا نفس مصير الضحايا إذ طالبوا بحقوقهم المشروعة أو حاولوا أن يتحدوا السلطة، (ولذلك نرى أن هذه الأنظمة تقوم بمعاقبة المتحدين على رؤوس الأشهاد )وعادة حتى تتمكن هذه الأنظمة من إرساء الخوف والرعب في قلوب الناس،الخوف الذي يضمن لهم انفرادهم واستمرارهم بالسلطة ،تقوم ببناء شبكة أمنية واسعة تستخدم الأفراد المدنيين لجمع المعلومات عن الناس والنتيجة هي أن  تشك الناس  بعضها ببعض وتخاف بعضها البعض ولا تثق بعضها ببعض وبهذا تصبح هذة المجتمعات منفعلة خائفة لا تجرأ على أن تحرك ساكن إذ أنها لا تثق ببعضها ،فأفراد هذه المجتمعات تصبح في ظل الأنظمة الاستبدادية  كذرات تقع بجنب بعضها البعض دون أن تكون على صلة مع بعض وإذا ابتعدت عنها تراها على هيئة هيكل يسمى 《المجتمع 》وإذا اقتربت منهاتجدها منفصلة  تماما عن بعضها وهذا ما يسمى في علم الاجتماع ب《التذري》ولذلك نرى هذه الذرات بعد سقوط الأنظمة المستبدة تأخذ إتجاهات مختلفة وإذا نظرت إليها من بعيد ثانية فلا تجدها على نفس الهيئة السابقة بل تكون هناك مجتمعات عدة بدل المجتمع الواحد كما حصل في العراق وسوريا ،أما أثر الخشية من العقوبة لا يقف عند هذا الحد بل يستمر حتى يخلق مجتمعا 《لاأباليا 》الفرد فيه لا يهتم بمصير أخيه إذا سلم هومن العقوبة وهذا ما  يفقد الناس الحس بالمسؤولية تجاه ما يحدث بالبلد ولذلك ترى من يناضل ويقاوم الأنظمة الاستبدادية هم قلة يعانون الأمرين ؛سطوة النظام وإهمال الشعب وهذا ما يسهل عملية رضوخ الشعب أمام الحاكم المستبد فتجد الناس يتبعون الحاكم دون تفكير الحاكم الذي يسلبهم كل شيء حتى الإرادة على فك القيود. وما يبقى في نهاية الأمر هو روح التبعية والانقياد الروح التى تميل إلى السير وراء الأقوى وإذ لا يوجد أحد فتقوم بصنعه ولذلك نرى في مجتمعاتنا ،التي عانت وما زالت تعاني من وجود أنظمة سياسية مستبدة ،يسير الناس وراء زعماء القبائل وغيرهم مع أنه لا يوجد قانون يجبرهم على ذلك ولا توجد عقوبة لعدم السير وراءهم.

أما هل يأتي هذا الانصياع والرضوخ أمام المستبد دون ضرر مشهود ؟كلا ،الرضوخ الذي يمارس كل يوم بل كل ساعة يصبح خصيصة كما أن الانفعال واللامبالاة والاستسلام المفرط تصبح خصائص لتبقى مع الناس حتى تضمن لهم الأسر والهوان ولتجلب لهم البقاء في الجهل وعدم التقدم فلذلك نرى يسقط نظام مستبد في بلادنا ليحل محله نظام مستبد آخر ،لأن آثار الاستبداد تجذرت في قلوبنا ،فالضرر المشهود هو أننا نقوم بتثقيل القيود من خلال الرضوخ. هكذا تصوغ الأنظمة الاستبدادية خصائص الشعوب سلبا وإذا نظرناالى أنفسنا لنجد كثيرا أم قليلا من هذه الخصائص ولذلك لابد من أن نقوم بتغيير أنفسنا وتنقيتها من آثار الاستبداد ثم نعمل على إيجاد التغيير الإيجابي في بلادنا وهذا ليس بأمر سهل.

حمزة الحصن، كاتب و مفكر من الاحواز

المراجع:

1:المعجم الوسيط، حرف الهمزة

2:أسس التوتاليتارية ،حنا ارنت ،حواشي الفصل الأول

3:الفصل الأول ،أسس التوتاليتارية ،حنا ارنت

4:لابد من القول هنا بأن ما حصل ويحصل في سوريا ليس حصيلة أفعال السوريين فقط بل تدخل العديد من الدول والأفراد زاد الطين بلة وساهم بشكل كبير في هذه المأساة.

تشرفنا بزيارتكم ونتمنى دائما أن ننول رضاكم.

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

موقع ويب تم إنشاؤه بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

%d مدونون معجبون بهذه: